«التقشف».. يسببه القطاع الخاص ويدفع ثمنه العام

«التقشف».. يسببه القطاع الخاص ويدفع ثمنه العام
يميز الكاتب بين التاريخ الفكري للتقشف والتاريخ الطبيعي له؛ أي أداء التقشف في الممارسة العملية.
«التقشف».. يسببه القطاع الخاص ويدفع ثمنه العام
كيف حُولت أزمة مصرفية، بمهارة وعمل سياسي، إلى أزمة قطاع عام وتكلفة ذلك؟

يلْفِت كتاب "التقشف: تاريخ فكرة خطرة" الذي نقله حديثا إلى اللغة العربية المترجم اللبناني عبد الرحمن إياس ضمن سلسلة عالم المعرفية (آذار/ مارس 2016) عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، لمؤلفه الأكاديمي الاقتصادي السكوتلاندي مارك بليث (Mark blyth) بذات العنوان «Austerity: the history of a dangerous idea» الصادر عن منشورات جامعة أكسفورد سنة 2013، انتباه القارئ من عنوانه الدال الذي يحمل اقترانا بين كلمتي "التقشف" و"الخطر"، وهو أمر قلما سمعنا به وعنه في الدارج اليومي لنشرات الاقتصاد والتداول بين خبراء الاقتصاد.

قبل عرض موجز لأهم الأفكار التي دافع بها بليث عن أطروحة "الفاضحة" لأوهام سياسية التقشف، كحل ناجع على الدوام للمشاكل الاقتصادية؛ وعلى امتداد سبعة فصول في 300 صفحة، ننبه إلى أن الكتاب جاء بصيغة مبسطة تجعل مضامينه في متناول المتلقي غير المتخصص إلا فيما ندر من الفقرات، التي تقتضي شرح بعض القواعد الاقتصادية الدقيقة.

ونسجل احتراز وتحفظ هذا الاقتصادي الشديد على لغة الأرقام، وتحديدا قاعدة قياس المعدلات التي يراها مضللة أكثر من اللازم في معظم الأحيان، أو ما يصطلح عليه بـ"الوهم الإحصائي والتوزيعي". يورد هنا مثالا بسيطا لتوضيح المسألة يتعلق بدخول بيل جيتس حانة، فهو لا يكاد يدخل– يقول الباحث- حتى يصبح من في الحانة جميعا أصحاب ملايين، فمتوسط قيمة الموجودين فيها يرتفع جدا. وهذا فورا صحيح إحصائيا وغير ذي معنى تجريبيا، ففي الواقع، ما من مليونير في الحانة، بل ملياردير واحد ومجموعة أشخاص آخرين يساوي كل منهم بضع عشرات من آلاف الدولارات.

يعرف التقشف في أبسط تحديد له بكونه "شكلا من أشكال التقليص الطوعي التي يتعدل الاقتصاد فيها عبر تخفيض الرواتب والأسعار والإنفاق العام بهدف استرجاع التنافسية، التي تتحقق (فرضيا) بأفضل وجه بتخفيض موازنة الدولة، وديونها وحالات العجز فيها. فذلك، وفق مؤيدي التقشف يلهم «ثقة الأعمال»، والحكومة لن «تزاحم» السوق على الاستثمار بامتصاص رأس المال المتوافر كله عبر إصدار الدين، ولن تزيد الدين العام «الكبير أكثر مما ينبغي» أصلا".

يستمر الباحث في سجالي فكري اقتصادي ضد أنصار السياسات التقشفية، التي يرى أنها "حصل وأن نجح في مناسبات قليلة جدا التقشف بالنسبة إلى الدول، لكن ذلك لم يحدث إلا في غياب مشكلة مغالطة التركيب، حين كانت دول أكبر من تلك المنطقة لتخفيض الإنفاق تستورد، وفي شكل كبير، للتعويض عن تداعيات التخفيضات".

لا يتردد بليث في القول بأن "التقشف أولا وأخيرا مشكلة سياسية من مشاكل التوزيع، وليس مشكلة اقتصادية من مشاكل علم المحاسبة". ويورد في هذا الصدد التكلفة المدفوعة إلى حدود عام 2012 من أجل تجاوز مشاكل الأزمة المالية منذ أزمة 2008، إذ بلغت تكلفة إنقاذ النظام المصرفي العالمي وإعادة رسملته ونجدته بطرق أخرى بين ثلاثة تريليونات دولار و13 تريليونا، وفق الطريقة المستخدمة لاحتساب التكلفة.

ويعود عبر فصول الكتاب إلى شرح مخاطر تلك السياسية وتداعياتها، حيث "تُعاني سياسات التقشف من الوهم الإحصائي والتوزيعي نفسه، لأن الشعور بتداعيات التقشف يختلف عبر هرم توزيع المداخيل. فالذين في أسفل الهرم يخسرون أكثر ممن هم في قمته لسبب بسيط مفاده أن الذين في القمة يعتمدون أقل على الخدمات التي تنتجها الحكومات، ويمكن أن يتحملوا خسائر أكبر لأنهم، في البداية، يملكون ثروة أكبر".
#2#
ويضيف في موضع آخر من الكتاب بأن مآزق التقشف هو أن "يُنتظر من الأدنين أن يسددوا في شكل غير مناسب ثمن مشكلة خلقها الأعلون، وحين يتحاشى الأعلون في شكل فاعل أي مسؤولية عن تلك المشكلة بإلقاء تبعة مشاكلهم على الدولة، لن ينتج عصر الأدنين ما يكفي من العائدات لتصويب الأمور، بل سينتج مجتمعا أكثر استقطابا وتسييسا ستقوض فيه الشروط اللازمة لقيام عمل سياسي مستدام يتعامل مع دين إضافي ونمو أقل".

باختصار يريد الباحث أن يقول لنا إن الأزمة بدأها القطاع الخاص لكن ثمنها يسدده القطاع العام. ويطرح في هذا الصدد سؤالا مستفزا مفاده أن المشاكل كلها ولدها القطاع الخاص، فلماذا يلوم كثيرون الدولة على الأزمة ويرون في تخفيض إنفاق الدولة السبيل إلى الخروج من فوضى تسبب بها الخواص؟

ويلخص هذا الاقتصادي في الأخير إلى أن خطورة فكرة التقشف ترجع- في وجهة نظره- إلى ثلاثة أسباب: هي أولا غير ناجحة عمليا، وهي ثانيا تعتمد على تسديد الفقراء ثمن أخطاء الأغنياء، وهي ثالثا تقوم على افتراض مغالطة كبيرة من مغالطات التركيب هي حاضرة الحضور كله في العالم الحديث.

بقي أن نشير إلى أن الكتاب جاء منجما في فصول مستقل، يمكن قراءة الواحد منها بمعزل عن البقية، وبلورة رؤية عن فكرة الفصل. وفي المقابل لا مفر لمن يسعى وراء تأسيس نظري متين حول الموضوع من قراءة كل فصول الكتاب.

ففي الفصل الثاني المعنون بـ"أمريكا: أكبر من أن تترك لتنهار: مصرفيون وعمليات إنقاذ ولوم الدولة" يأخذنا الباحث في رحلة تأصيلية عن أصول الدين وبحث في جذور نشأته في الولايات المتحدة الأمريكية. ويشرح فيه أيضا كيف حولت أزمة مصرفية، بمهارة وعمل سياسي أساسا، إلى أزمة قطاع عام والتكلفة التي ترتبت عن ذلك كله.

بعدها ينتقل في الفصل الثالث إلى "أوروبا: أكبر من أن تنقذ: العمل السياسي للتقشف الدائم" ليشرح كيف أعيدت تسمية الدين الخاص الذي خلقه القطاع المصرفي الأمريكي ليصبح "أزمة دين سيادي" عند الدول الأوروبية المسرفة، وما رافق ذلك من ترويج وتضليل. مبرزا في ذات الآن أن الأسباب التي تجعل التركيز الأوروبي على التقشف باعتباره الوسيلة الوحيدة للمضي قدما لا تعكس فقط مجرد خيار أيديولوجي، بل كذلك مطلوبات بنيوية ناجمة عن اتجار ضخم بأخطار معنوية بين المصارف الأوروبية.

بعدما وضحت الصورة الحالية أمام القارئ يأخذه في الفصول الثلاثة الموالية في جولة تاريخية حول التقشف، تمتد على مدار ثلاثة قرون (1692 - 1942) مميزا فيها بين التاريخ الفكري للتقشف والتاريخ الطبيعي له؛ أي أداءات التقشف في الممارسة العملية له.

الأكثر قراءة