تعليم منهج اللاعنف «1»
في هذا القتل الأعمى والضال، والقسوة التي لا تستثني أحدا ولا ترحم أحدا، حتى الحيوان والشجر والحجر، من ملح الحياة، وفروض الاستقرار أن نربي الأجيال الناشئة على تعليم فلسفة (اللاعنف) كمنهج فلسفي وتاريخي متكامل من المراحل الدنيا من التعليم، على أن يتم ترسيخ أصوله وأسسه وتطبيقاته في الثانوية وقبل التعليم الجامعي.
دائما صوت دم المغدور يصرخ في السماء، وعلى القاتل لعنة الملائكة والناس أجمعين، يبدأ القرآن برواية فاجعة أول قتل في التاريخ - قربان - ابني آدم - (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنكۖ قال إنما يتقبل الله من المتقين) (27) المائدة.
الغيرة، والأنانية العمياء، والحسد، والطمع ودون أي سبب ديني كانت سبب القتل الأول، والخطيئة العظمى، التي ستتوالى في الحدوث والوقوع طيلة عمر الإنسان.. وبخلاف - نظرية - الاقتران والتلازم بين الدين والقسوة والعنف.
في كتاب الله يأتي التدين، ومخافة الله، كسبب يتضاد مع العنف والقتل ويرفضه، ولا يتقبله بتاتا .. فهذا هابيل يواجه - إرادة القتل - والعنف بمبدأ (اللاعنف)- دينيا لأنه يؤمن بالله ويخاف منه .. (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلكۖ إني أخاف الله رب العالمين) (28) المائدة. بقراءة تاريخ الأديان والحضارة المصاحبة لها، ظل (الدين) و(الإيمان بالله والدار الآخرة) هما السبب المنتج للرحمة والإحسان والعمل الصالح، وهو وحده الذي يرد البغي والظلم، واستباحة النفس المصونة المحرمة.
أما العنف الذي يظهر في نصوص التراث الديني، هي إما إسقاط - التوظيف السياسي للدين – أي الوقوع في فخ - الاختطاف السياسي للدين - عبر التاريخ وفي أزمنة متعاقبة، ولا يزال الصراع على السلطة أو التنازع على الأرض ومصادر الثروة، يتم استعمال مسميات دينية للصراعات السياسية والحروب الاقتصادية كافة، وإما يكون النص الديني في التراث العربي والإسلامي نتاج (صناعة الحديث) لمصلحة الحكام، والمشاريع السياسية. وهم الوضاعون الذين يكذبون على رسول الله ـــ صلى الله عليه وآله وسلم ـــ لتحقيق أهداف سياسية بمقابل مالي، وهم الذين أخبرنا الله عنهم (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسيةۖ يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهمۖ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) (13) المائدة.
تحريف الكلم عن مواضعه .. يأتي كتزوير مقصود للواقع وتزييف للحقائق متعمد، وهذا سلوك استوجب طردهم من رحمة الله في الدار الآخرة، وعقوبتهم في الدنيا بصفة خسيسة جدا، تطمس فطرة الإنسان، وتعمي بصيرته دائما، وهي أن يعيش عمره كله بعقوبة قسوة القلب.
من خلال التأمل في تاريخ البشرية، وقصص الحرب والسلم فيها، تأتي (المصلحة الذاتية) في السياسية، والدوافع الاقتصادية، والاجتماعية، ثم تستعمل (العقيدة) ككبش فداء لتحقيق غاياتها بأقل التكاليف من حطب الإكراه أو التضليل والاستغفال للشعوب، ولجعل الحروب والقتل لأسباب ذات قيمة. فغالبا تعاف النفوس القتل لأسباب تتعلق بالتنافس المادي، ولم يتقبل هذا السلوك حتى في أشد مراحل التاريخ انحطاطا، إلا فئة اللصوص وقطاعين الطرق. وهو سلوك عدواني بخلاف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ورحمته عليهم في رسالات رسله وأنبيائه وكتبه.
في كتاب الله إصرار على الرحمة ذكرها 72 مرة، وجعل غاية الرسالة والنبوة الأخيرة هي العدل ورحمة الإنسان، وليس رحمة المؤمنين به وأتباعه فحسب(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (107) الأنبياء. وأن هذه الرحمة ليست مشروطة بشيء لتنال، ولا متعلقة على الإيمان .. هي رسالته وهي هدفها الأول والأخير.