القضايا الاقتصادية السعودية الـ 5 .. علاقة الحكومة بالاقتصاد
خلال الأسابيع الماضية تحدثت عن ثلاث قضايا وهي فجوة الرواتب وسوق العمل والإسكان, واليوم سأناقش مسألة علاقة الحكومة بالاقتصاد. وهذا الموضوع شائك جدا، ليس بسبب حساسيته السياسية، بل بسبب التداخل الواسع بين القضايا داخل هذا العنوان، حتى كأنها كرة صوف يصعب حل خيوطها دون أن تتعقد. قد لا يكفي مقال واحد لعرض المشكلة وحلها ولهذا سأعود من البداية تماما. فلقد تأسست المملكة على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز في الرياض في وسط المملكة ولم تتعرض بعدها إلى أي فكر استعماري أو تسلم قيادها إلى أحد بل أخذت جميع قراراتها من منهج وسطي كما أمر الله في كتابة العزيز، وحتى ذلك الحين لم يكن في العالم الإسلامي علم اقتصاد بمعناه التجريبي، بل مجرد فقه المعاملات، وهو مجموعة فتاوى خاصة بالبيع والشراء وأعمال الناس في الأسواق، إضافة إلى فقه الزكاة وهذه في مجملها لم تقدم تفسيرات وتنبؤات اقتصادية حرة، ولم يتم استخلاص أي فكر اقتصادي منها. كانت المملكة تتصرف اقتصاديا من خلال ما تمليه هذه النصوص الفقهية، دون تنبؤ حقيقي بما سيترتب عليه أي قرار أو فتوى في سلوك الاقتصاد. كان الاقتصاد زراعيا بسيطا والمشاكل محدودة في كمية النقد، لكن المشكلة بدأت تتعقد عندما انفجرت ينابيع النفط في صحراء المملكة. لم يقف أحد ليسأل حينها من يمتلك هذا النفط، ومن له احتكار إيراداته، وكيف يتم توزيعها. أسئلة مهمة لم يكن لدينا رصيد كاف من التجربة الاقتصادية لنجيب عنها، وكانت تحركات الأسواق أسرع وأضخم من أن تترك لنا فرصة الإجابة، ولم نفرغ من العلماء من يجيب عنها. بدأت المسألة بشركات نفط عالمية تدفع ضرائب عن إيراداتها، ثم تحول الأمر تدريجيا مع فهم اقتصاد الواقع لتمتلك المملكة "كحكومة" أسهم شركة النفط كافة التي تعمل في المملكة والتي سميت "أرامكو السعودية"، وهي شركة مملوكة للحكومة مستقلة تماما تدار بفكر إدارة الأعمال والمحاسبة عنها وتقدم قوائم مالية تحت تفسيرات الفكر الاقتصادي الغربي، وتدفع ضرائب بنسبة 100 في المائة من أرباحها للمالية العامة للدولة. وهنا بدأت ميزانية الحكومة في التضخم، وإيراداتها تنمو بسرعة، وبدأت لنا مشكلة تفسير توزيع هذه الإيرادات الضخمة على الاقتصاد غير النفطي لينمو بدوره.
كانت الإجابة بسيطة لكل هذه الأسئلة المعقدة، فمنذ ذلك الحين والحكومة تقوم بكل الأدوار، وفي الوزارات يتم التخطيط للاقتصاد وتوجيهه حسب ما يراه المخططون أنه الوضع الأمثل، يتم ضخ الأموال في الزراعة، وتدفع المليارات على شكل قروض ومنح وغيرها، وفي العقار مثل ذلك، ومثلها في الصناعة، وتم إنشاء صناديق التنمية. ومع كل هذه التوجهات كان تيار كبير من مناهج التعليم يشوه بصورة مستمرة علم الاقتصاد تحت مسميات عريضة للشيوعية والرأسمالية والاشتراكية، ويروج للاقتصاد الإسلامي على أنه حالة وسط بين كل هذا وأننا ندير اقتصادنا وفقا له، لكن دون أن نفهم على وجه الدقة والقابلية للمقارنة ما هو هذا الاقتصاد وما هي حالة الوسط هذه، وكيف نفسر سلوكنا الاقتصادي وكيف نتنبأ به ضمن حالة الوسط هذه. كان التخدير يسري في مفاصل الاقتصاد والمجتمع يرفل في ثوب النعمة التي أنعم الله بها علينا مع دعم الحكومة لكل مناحي الحياة واهتمامها بكل صغيرة وكبيرة، من ولادة الطفل وحتى مماته، من تعليمه وصحته وتوظيفه وتقاعده ومنزله وما يحتاج إليه من سلع وتموين. لم تكن الدولة تقدم كل هذا بالمجان ــــ ولا أعرف حتى الآن لماذا لم تقم بذلك؟ ـــ لكنها كانت تقدم بعضه بالمجان وبعضه بدعم خفي ومرة أخرى دون تفسير لماذا هذا بالمجان وهذا بدعم وهذا بلا دعم؟ ولعل أوضح الصور للدعم هي عدم ربط الراتب الوظيفي بالإنتاج بقدر ما هو دعم للقوة الشرائية للمواطن.
وعلى هذا نشأ جيل كامل معتمد على الحكومة في كل صغيرة وكبيرة، وترك الناس مزارعهم ومراتع إبلهم وأغنامهم وحرفهم التي توارثوها واستبدلت بوظائف عسكرية ومدنية تدفع الحكومة أجورهم ليقوموا بدورهم بشراء الإنتاج المستورد من السلع التي تصنع في الخارج ثم استيراد الأيدي العاملة نظرا لعدم توافر قوى سعودية لهذا الأمر بعد انشغالهم بوظائف الحكومة، وهجر الناس قراهم بل لقد ترك البعض منازلهم من الطين وتركوا أثاثها فيها إلى فلل حديثة وحياة جديدة، كل هذا كان برعاية الحكومة ودعمها المباشر، وتحولت محال صغيرة في شوارع الرياض وجدة ومكة والدمام إلى شركات ومؤسسات كبيرة اعتمادا على عقود التعهدات الحكومية فقط. لقد صنعت الحكومة اقتصادها كأنه وليدها. لم يكن أحد بحاجة ماسة إلى شركات إنتاجية عملاقة بخلاف "أرامكو" والشركات النفطية وبعض الأسمنتيات، ولم يتم تطويع الاقتصاد لإنشاء شركات مساهمة ولم يتم تطوير السوق المالية ولا عمليات إصدار الأسهم أو تداولها، وانحصر دور المؤسسات الاقتصادية في الاهتمام بالقطاع المصرفي وكمية النقود، والحفاظ على مستويات مقبولة لسعر الصرف. كان كل شيء يبدو مثاليا وإلى حد بعيد وهناك من يروج لنظريتنا الاقتصادية كحل أمثل لمشاكل العالم في الوقت الذي لم يكن لدينا نظرية فعلية وعملية بخلاف فتاوى فقه المعاملات.
مع حجم النمو السكاني الضخم، ظهرت مشاكل التنمية في كل مجال، ومشاكل البطالة والجميع يشعر بحاجة ماسة إلى تفسير اقتصادي صحيح لاتجاهنا الذي نسير فيه وأين سنكون بعد سنوات من اللحظة الراهنة، عندها استدركت الحكومة أن عليها معالجة الوضع فبدأت مشروع الخصخصة عام 1999 بخصخصة شركة الاتصالات، ثم اكتشفنا حاجتنا إلى سوق للأسهم فتم إنشاء شركة تداول وهيئة السوق المالية وبدأت الشركات تتوافد على السوق، ثم حلت الطفرة الثانية للنفط ومعها عادت الحكومة لتلعب الدور القديم نفسه، وتمارس كل الأدوار حتى تضخم الإنفاق بشكل غير مسبوق، وتركت المشاكل القديمة لتتفاقم مشكلة العقار وأزمة الإسكان الراهنة والبطالة خاصة عند النساء ثم انهارت أسعار النفط لتظهر أمامنا مشكلة الإنفاق الحكومي الضخم. ولأننا نعتمد على الحكومة كما عهدنا، فقد واجهتنا مشكلة معقدة لم نعهدها، إذا خفضت الحكومة من الإنفاق تأثر الاقتصاد بشكل كبير وتراجع النمو وقد يحل الكساد، إذا استمرت في الإنفاق فمن أين لنا بدخل يكفي كل هذا وستتآكل الاحتياطيات من النقد الأجنبي تماما؟ لماذا وصلنا فجأة إلى هذا السؤال الصعب؟ كانت المسألة واضحة تماما، نحن لا نعرف أين نقف في النظرية الاقتصادية. نحن لدينا اقتصاد موجه لا أحد يشك في ذلك، لكن إلى أي درجة، وما مدى قدرة تحمل الاقتصاد لفك هذا التوجيه وقبول التحرر، لم تكن لدينا نظرية كاملة لعلاقة الحكومة بالاقتصاد ... يتبع،،