لا تقل لي الفصل ولا برامج التعليم .. قل لي: المعلم (2-3)
رسالة من المعلمة نور م.:
"كنت أجلس مع طالباتي اختياريا بعد الحصة مباشرة نتناقش بها بتلقائية عن أي موضوع يشغل رؤوسهن الصغيرة. ووجدت أن لهذه الجلسات التي لا تستغرق سوى دقائق قليلة نفعا في إزالة بعض المفاهيم الخاطئة، أو توضيح فكرة بالمادة التي أدرسها، وبمواد لا أدرسها إن كنت متمكنة من المعلومة. ثم تطور الأمر لعلاج مسائل نفسية وفكرية، وتعرف أني أرسلت لك مرة عن طالبتي منيرة، التي حاورتك ورجعت لنا مطمئنة سعيدة. وأستعين بشخصيات وبروفيسورات عن حالة أي بنت تشغلني ووفقني الله أن تكون لهذه الجلسة شعبية من الفتيات الصغار (مرحلة متوسطة) ثم صارت تأتي طالبات من خارج الفصل للجلوس والحديث معنا، ثم اقترحت زينب وهي فتاة نابهة أن نسمي جلستنا "برق" فهي تقول إن البرق مفيد ساطع يشق الظلمة ويفيد بآلية الأمطار. على أن الذي صار أن المديرة عنفتني واتهمتني بتسبب الفوضى وإشغال الطالبات عن حصصهن وأن المعلمات الأخريات اشتكين. المهم أن جلسة برق انتهت، والطالبات احتججن وذهبن للمديرة إلا أنهن رجعن خائبات حزينات".
ورسالة من المعلم حيدر ح.:
"أدرس اللغة الإنجليزية، ووجدت أن الطلبة لن يتمكنوا من اللغة الإنجليزية لأن طريقة تدريسنا تخلو مما يسمى ببناء اللغة، أي بنيتها التحتية، التي إن تمكن بها الطالب فلا يكون الباقي سوى تجميع المفردات، وهذا سهل. فغيرت نمط التدريس لمنهجة تعليم اللغة بالطريقة التي أعرف أنها سر قوة اللغة الإنجليزية بالهند مثلا (تخرجت في جامعة بومباي)، تحسن الطلبة بشكل ملحوظ، وجاء ولاة أمور يشكرونني على التحسن الملحوظ في اللغة الإنجليزية عند أبنائهم، وحماستهم الواضحة للتعلم. مع أني حافظت طبعا على منهج الوزارة الذي سيصب عليه اختبار طلبتي، فكان الكسب مضاعفا. على أن هذا المكسب لم يكن كذلك عند الإدارة، وجاءني إنذار بالتوقف عن "بلبلة" الطلبة بدروس خارج المنهج. لم تفلح جهودي لإقناع "الإدارة" وغيرها. فاضطررت لاعتزال التعليم والعمل بمكتب ترجمة، آملا أن أفتح معهدا يوما لتعليم وتعلم اللغة الإنجليزية بالمنهج البنائي التأسيسي".
وترون هنا كيف ضاعت علينا أمور مهمة من رسالتي الأستاذة نور والأستاذ حيدر، وهما من نوعية المدرسين العظام العاديين الذين يحرصون على الجدية، فهم ليسوا عباقرة الأرض، ولكنهم يحبون عملهم، ويريدون أن يجيدوه، خصوصا أن العلم أهم بضاعة على الأرض. الجدية وحب العمل مهارة مولودة معهم ومحبة تلاميذهم جعل سؤالهم ليس كيف أحضر أو ألقي درس اليوم. كما يفعل مدرسون عاديون، بل سؤالهم: كيف أطور آلية التعليم لتصل أوضح وأصفى وأكثر فائدة للطلبة، وإن لم يكن هذا هو كل مقصد التعليم وفائدته، فما المقصد إذن؟!
الذي حصل الآتي: مر على المدرستين معلمة عظيمة عادية، ومعلم عظيم عادي، وهذه قيمة مضافة – أتت على عظم نفعها مجانا- ولكن سحقت همتهما من إدارات لا تريد أن تخرج من دائرتها الروتينية الآمنة. فيتضح أن الإدارة لا تبحث عن الجواهر بين مدرسيها، ولا يهمها جودة التعليم، بل يهمها أن تبقى تحت ملاذ آمن. والتلاميذ المتحمسين السعداء- وهذا أكبر ما نتمناه؛ أن يذهب أبناؤنا لمدارسهم سعداء- سحقت أيضا سعادتهم ومعها فوائد مهمة ضاعت، وربما سبب في ضياعهم.
في التعليم الجيد أهم عنصر به هو أكثر ما ننساه وهو المعلم. والنسيان في الملاحظة وفي التطوير.. فبينما يبحث العارفون بالمناجم عن الماسات التعليمية، أتت جوهرتان على كفتي الإدارة بتلك المدرستين على صحن سيراميكي ناصع، فرموا الجوهرة.. وانكسر السيراميك.
ما انتهينا بعد. بقي الجزء الثالث. وأعدكم أن يكون الأخير.