الالتزام المهني .. ضوابط ذاتية نحتاج إليها
يحمل أي عمل مهني يقوم به أي منا "قيمة" تتمثل في فوائد نقدمها للآخرين؛ وفي المقابل تعود علينا هذه القيمة "بقيمة أخرى" تتمثل في فوائد نتلافاها من الأعمال المهنية المختلفة التي يقوم بها الآخرون. فعلى كل فرد منا أن "يعطي" في مجال مهني معين، كي يستطيع أن "يأخذ" من عطاء الآخرين في المجالات المهنية المختلفة. هذا هو جوهر ما يعرف في الاقتصاد بفرضية "اليد الخفية" التي تلاحظ تحرك نشاطات أبناء المجتمع للعمل في مهن مختلفة تناسب اختلاف إمكاناتهم ورغباتهم، وتؤدي إلى تبادل "المنافع" فيما بينهم، لما فيه "خير الجميع".
وكي تؤدي اليد الخفية عملها بالشكل المأمول، يحتاج العمل المهني لكل فرد منا إلى ضوابط ذاتية تسهم في تعزيز فوائد معطياته، وفي رضا المستفيدين منه. وربما يحتاج هذا العمل أيضا إلى ضوابط أخرى تحددها تشريعات المجتمع وتفرضها سلطاته؛ لكن الاهتمام بالضوابط الذاتية والالتزام بها، يحد من الحاجة إلى تلك الضوابط الأخرى، أو لعله يجعلها تحصيل حاصل.
يطرح هذا المقال مسألة الالتزام بالضوابط المهنية الذاتية، ويقدم في سبيل ذلك مثالين: مثل يرتبط "بمهنة الطبيب"؛ وآخر يتعلق بمهنة "مهندس الإلكترونيات". يعود المثال الأول بنا إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حيث حدد العالم اليوناني "أبقراط" ضوابط مهنية ذاتية للأطباء ووضعها في "قسم" على كل طبيب أن يقسم بأنه سيعمل على الالتزام بها في ممارسته لعمله عند اكتمال تأهيله. ويلقب "أبقراط" "بأبي الطب" لأنه أول من دون "علم الطب"، حيث ظلت كتبه منارة لهذا العلم حول العالم على مدى قرون طويلة؛ كما بقيت "الضوابط العشر" المطروحة في قسمه جزءا من القسم الذي يؤديه خريجو كليات الطب حول العالم حتى يومنا هذا.
يتمثل الضابط الأول من ضوابط قسم "أبقراط" في التركيز على العمل على "خدمة الإنسانية"؛ ويهتم الضابط الثاني بما يجب أن يوليه الطبيب من "تقدير واحترام لأساتذته" الذين أسهموا في تأهيله. ثم يركز الضابط الثالث على ضرورة ممارسة العمل "بأمانة وإخلاص" دون أي غش أو خداع؛ ويؤكد الضابط الرابع أن الهدف هو دائما الحرص على "صحة المريض". ويأتي الضابط الخامس ليقضي بوجوب "حفظ خصوصية المريض وأسراره" حتى بعد رحيله عن الدنيا. ثم يحرص الضابط السادس على "شرف المهمة" وتقاليدها النبيلة في التعامل مع الناس ورعايتهم على أفضل وجه ممكن.
ويطرح الضابط السابع موضوع العلاقة مع "زملاء الطبيب والعاملين معه"، ويؤكد ضرورة اعتبارهم "أخوة" وحل أي خلاف معهم بالتي هي أحسن. ويهتم الضابط الثامن "بالتعامل مع المرضى" حيث يبين أن على الطبيب أن "ينظر إلى المريض كإنسان" بعيدا عن انتماءاته أو آرائه أو مواقفه أو أفعاله السابقة. ويأتي الضابط التاسع ليركز على مبدأ "احترام حياة الإنسان" والسعي إلى عدم تعريض هذه الحياة للخطر، ربما من خلال تجربة علاج غير موثق، أو تحت أي ظرف آخر. وأخيرا يحرص الضابط العاشر على "عدم استخدام المعرفة الطبية في التعدي على حرية الإنسان وحقوقه".
ومن الضوابط الذاتية "العشرة" المطلوبة في "مهنة الطب" ننتقل إلى الضوابط الذاتية المطلوبة في مهنة "هندسة الإلكترونيات"، وهي أيضا "عشرة" ضوابط وضعها معهد المهندسين الكهربائيين والإلكترونيين في إطار طرحه "لدليل أخلاقيات المهنة". ولهذا المعهد ما يزيد على "420 ألف عضو"، موزعين على "160 دولة" حول العالم.
يقضي الضابط الأول من ضوابط الدليل بأن تكون قرارات المهندس "قرارات مسؤولة" ترتبط بما فيه "مصلحة الإنسان والمحافظة على سلامته وصحته". ويهتم الضابط الثاني بضرورة تجنب أي تعارض في المصالح بين المصلحة الذاتية ومصلحة العمل، فإن حدث ذلك فلا بد من الكشف عنه بما يؤدي إلى تفادي الوقوع في الخطأ. ويركز الضابط الثالث على "الأمانة والواقعية" في تقدير تكاليف الأعمال المختلفة. ويأتي الضابط الرابع "ليحذر من قبول أي رشوة" بأي شكل أو أي صورة كانت. ثم يطرح الضابط الخامس ضرورة "استيعاب المهندس للتقنية التي يعمل في مجالها، وتطبيقاتها المناسبة، والآثار الناتجة عنها".
ونأتي إلى الضابط السادس الذي يقضي بأن يسعى المهندس إلى "تطوير إمكاناته" ومهاراته وموقعه التنافسي، وأن يعمل في المهمات التي تناسب هذه الإمكانات، ويبتعد عما هو غير مؤهل له. ويركز الضابط السابع على أهمية استعداد المهندس لقبول "النقد الموضوعي" لعمله الفني، وعلى الاعتراف بالخطأ؛ إضافة إلى استعداده لتقدير الآخرين، عندما يقومون بأعمال ناجحة. ويهتم الضابط الثامن بموضوع التعامل مع الجميع على قدم المساواة، دون التأثر بالانتماء أو العرق أو الإعاقة أو الجنس أو أي عوامل أخرى. ويقضي الضابط التاسع "بتجنب القيام بأي عمل خبيث قد يؤدي إلى إيقاع أي أذى" بالآخرين، أو بأملاكهم، أو سمعتهم. وفي الختام، يطرح الضابط العاشر موضوع "مساعدة المهندس لزملائه" على تطورهم المهني، وعلى تنفيذهم "لدليل أخلاقيات المهنة" الذي يشمل الضوابط العشر. بناء على الضوابط المهنية الذاتية المطروحة في المثالين السابقين، نجد أن هناك معايير مشتركة لهذه الضوابط، وأخرى مختلفة تبعا لطبيعة المهنة، كما نجد أيضا أن جوهر الضوابط هو "مكارم الأخلاق". تطلب هذه الضوابط من كل منا "الأمانة والصدق؛ وحسن التعامل مع الآخرين دون أي تمييز فيما بينهم؛ والحرص على خير الإنسان وسلامته؛ وعلى تطوير الإمكانات الذاتية في العمل؛ وتقدير أعمال الآخرين". مثل هذه الضوابط الذاتية مطلوبة ليس فقط في مهنتي الطب وهندسة الإلكترونيات، بل في جميع المهن أيضا. ولا شك أن في ذلك ما يبني نشاطات أبناء المجتمع على أساس سليمة ويعزز أداءهم ويفعل التواصل والتعاون فيما بينهم.
نحتاج في العمل على تحقيق طموحاتنا المستقبلية إلى الإنسان المناسب الذي يستطيع تحويل هذه الطموحات إلى واقع ملموس. والإنسان المناسب هو ذاك المستعد للعمل والعطاء من خلال ضوابط ذاتية تمنحه الثقة بعطائه وتجعله أيضا موضع ثقة الآخرين. الضوابط التشريعية والإدارية التي تسعى إلى تطوير أعمالنا مطلوبة لكنها غير كافية لأنها قد لا تحيط بمختلف جوانب عمل الإنسان، ولأن تنفيذها غالبا ما يحتاج إلى سلطة الرقيب. الضوابط الذاتية مطلوبة لأنها نابعة من الإنسان نفسه وتحت مراقبة نفسه أيضا. والمسؤولية عن ذلك مسؤولية معرفية لا بد من تفعيلها من قبل جميع المؤسسات المعرفية من الأسرة إلى المدرسة وحتى الجامعة ضمن بيئة إعلامية ثقافية مناسبة.