نمو مذهل لشاحنات النقل الثقيل
كنا قبل أيام في طريقنا من الرياض إلى المنطقة الشرقية في وضح النهار، ولاحظنا وجود عدة انقلابات لمركبات النقل الثقيل، على جانبي الطريق السريع. والتفسير المنطقي لتكرار حدوث مثل هذه الحالات هو حتما نوم السائق أثناء القيادة وفقده السيطرة على المركبة وهي تسير بالسرعة المعتادة. ويدل ذلك على تفشي الإرهاق الذي يعانيه سائقو تلك المركبات بسبب طول ساعات العمل وغياب التنظيم الذي يحكم حركة سيرهم خلال الليل والنهار. كما أنه يشير إلى ازدياد كبير في عدد المركبات الثقيلة التي تسير على طريق الدمام ـــ الرياض، ذاهبة آيبة استجابة لارتفاع نسبة الحركة التجارية ونقل المعدات والبضائع بين الموانئ والمدن الرئيسية. وكأننا لا نملك إلا هذه الوسيلة من وسائل النقل التي تشكل خطورة كبيرة على السلامة المرورية وتستهلك ملايين البراميل من المشتقات البترولية التي تباع بسعر أقرب إلى «البلاش» وتعمل عليها مئات الألوف من العمالة الأجنبية. ناهيك عن المبالغ الضخمة التي ندفعها بالعملة الصعبة لشراء تلك المركبات وقطع غيارها. فهي إجمالا عبء ثقيل على اقتصادنا الوطني الذي يعاني تذبذب الدخل العام واعتماده شبه الكلي على ما تصرفه الحكومة.
فما هو يا ترى البديل المناسب الذي يكفل لنا وضعا مستداما وأكثر كفاءة؟ البديل، دون أدنى شك، موجود ومنذ أكثر من 65 عاما، ولكننا لم نطوره مع تطور وضعنا الاجتماعي والاقتصادي والتجاري إلى المستوى المطلوب، بعد أن تضاعف الطلب على النقل عشرات المرات. وظلت سكة الحديد بين الدمام والرياض شبه مهمشة منذ إنشائها في عام 1950، إلا من إضافات متواضعة لا تفي ولا تتناسب مع حاجتنا وطموحنا. تعاقب على رئاستها عدد من المسؤولين الذين يشهد لهم بالخبرة الإدارية والغيرة الوطنية ولم يستطع أي واحد منهم أن يغير مسارها لتكون أكثر فاعلية وأكبر فائدة. فنظرة المسؤولين في الدولة لها لا تعدو عن كونها مجموعة من قضبان الحديد وعربات تسحبها مقطورات. ومن المعلوم أن المردود المالي المباشر للسكك الحديدية لا يبرر الاستثمار الاقتصادي الكبير فيها. ولكن الفوائد والمكاسب غير المباشرة أكثر من أن تحصى. فالقصور ليس من الدراسة التقليدية للجدوى الاقتصادية، بل في طريقة الدراسة نفسها وشمولها. فإذا أدخلنا في المعادلة الاقتصادية فقط طرفين، هما مجموع ما يصرف من مال على المشروع مع تكلفة التشغيل والصيانة عبر زمن العمر المفترض للمرافق، وفي الطرف الآخر من المعادلة مجموع ما سوف نجنيه من عملية النقل خلال العمر الافتراضي، لربما وجدنا أن المشروع في الظاهر غير مربح. بل لا بد من تحمل خسارة كبيرة. وهذا ليس بالضرورة صحيحا. ولذلك يجب أن تكون دراسة الجدوى الاقتصادية أكثر شمولية. فمن الضروري الأخذ في الاعتبار ما يوفره النقل بواسطة سكة الحديد من الوقود الأحفوري، وهي كميات هائلة من الديزل الذي سوف يباع في السوق الدولية بأسعار عالية. وكذلك الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية التي تنهك الاقتصاد الوطني، نظرا لعدم قبول المواطن في وقتنا الحاضر العمل في قيادة وصيانة تلك الشاحنات. وفي المقابل فإنه بالإمكان، كما نشاهد اليوم، إشغال جميع وظائف السكك الحديدية بمواطنين بعد التدريب والتأهيل. وهذه لها محليا فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة لا بد من احتسابها ضمن دراسة الجدوى الاقتصادية. إضافة إلى توفير دفع قيمة شراء المركبات بعملة أجنبية، بما في ذلك تكلفة قطع الغيار والصيانة التي معظمها، إن لم تكن كلها، تؤديها عمالة أجنبية. وهناك عاملان، قد لا يكون التوفير فيهما محسوسا ولكنه مهم، ومن الممكن تقدير الحد الأدنى لتكلفتهما. الأول، المتطلبات المالية لصيانة الطرق التي تسير عليها الشاحنات، وهي مبالغ ضخمة. والثاني يتعلق بسلامة المرور. فمما لا شك فيه أن خلو الطرق العامة من سير الشاحنات سوف يخفف من وقوع الحوادث المرورية بنسبة كبيرة. ومن الممكن احتساب نوع من الوفر المادي، إلى جانب تفادي حدوث المزيد من الوفيات والإصابات على الطرق. واعتبار ذلك أيضا وفرا ماديا لمصلحة التحول من نقل الشاحنات إلى السكك الحديدية. وسوف نجد أن عموم الجدوى الاقتصادية سوف تميل لمصلحة استبدال الشاحنات بالقطارات في أسرع وقت ممكن. وتكون الفوائد المالية والاجتماعية مضاعفة مع مرور الوقت، عكس لو نترك الوضع المتدهور على ما هو عليه زمنا أطول.
وجود البنية التحتية الحالية لسكة القطار بين الرياض والدمام سوف يساعد كثيرا على إحداث مسارات جديدة تسير بجانب الطريق السريع الممتد من الدمام إلى الرياض. وتكون مهمتها الرئيسية نقل الأحمال الثقيلة، لتحل محل المركبات التي أحيانا كثيرة تحتل مسارين من الطريق. وهو ما يستدعي توسعة مرافق التسليم والتخزين في طرفي سكة الحديد والميناء الجاف في الرياض. ولعله من المناسب دراسة جدوى تسليم المشروع للقطاع الخاص، وخصوصا الشركات التي تمتلك قسما كبيرا من شاحنات النقل الحالية. وقد يستغرق التخطيط ودراسة الجدوى والتصميم والتنفيذ سنوات طويلة، ولكن تأجيل القرار إلى أي زمن في المستقبل سوف يكلفنا الكثير ويجعل الأمر أكثر صعوبة من لو تم اتخاذه في أقرب وقت ممكن، وهو الأحوط. هذا المشروع يجب أن يكون أحد أهداف «رؤية 2030»المباركة. فمردوده الاقتصادي والاجتماعي يرقى إلى مستوى تطلعاتنا الاستراتيجية التي نسعى جاهدين إلى تحقيقها.