حول العلاقة مع أمريكا
منذ أكثر من سبعة عقود وخاصة بعد اجتماع الملك المؤسس والرئيس روزفلت والعلاقة بين أمريكا والمملكة توصف بالاستراتيجية. بعد هذه التجربة الطويلة في تاريخ المملكة وتاريخ تجربة أمريكا في المنطقة أصبح هناك بعد تاريخي إضافة إلى الثوابت والمتغيرات في العلاقة بين الطرفين. لذلك هناك تركة عاطفية ولكن محورها الأساس مبني على منطق المصالح المختلف هيكليا، فمصالح الدولة الأقوى في العالم لابد أن تكون مختلفة لدولة نامية مركزية في الإقليم. يقول كيسنجر، أحد الذين يجمعون بين الفكر والممارسة في السياسة، إن العلاقة الخارجية تتمخض في معرفة المهم من التاريخ وعلاقته مع الحاضر والمستقبل. في ظل هذه الخلفية نحاول أن نتلمس المرحلة وآفاق العلاقة بين البلدين.
الواضح أنه طرأت تغييرات على البيئة العامة وحيثيات العلاقة ولكن لا بد من التعامل مع المستجدات لكيلا تتآكل نظرا لأهميتها. بعض هذه المتغيرات بطيء الحراك وبعضها يخضع للأحداث والصدف التي كثيرا ما تغير سرعة حركة التاريخ. من المتغيرات البطيئة أن المجتمعات في العصر المعلوماتي تصبح أقل تحملا للخلافات الثقافية "معاكس للبدهي في أن التواصل يقلل الاختلافات"، ولذلك هناك نظرة غير صحية نحو المملكة. من المتغيرات البطيئة أن المملكة أيضا تغيرت فلم تعد ذلك المجتمع البسيط الذي عهده الأمريكان.
أصبحت المملكة "أكثر تعقيدا وأصعب على الفهم"، وغالبا لا يرتاح الناس لما يخرج عن المعتاد، فقد سمعت هذه العبارة ولو على سبيل نصف الجدية حين ذكر قريق قاوس، أحد أهم المراقبين للشأن السعودي، أنه "مرتاح" أكثر للنمط السعودي القديم فلم يعد يفهم السعودي الجديد.
قد تكون عادة أمريكية أصيلة في نقد ما هو غير مألوف. من العوامل التي ليست سريعة وليست بطيئة يأتي النفط، هذا العامل تغير على أكثر من مستوى. استخراج النفط الصخري وتوسع إنتاج النفط في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، وبالتالي تقلص نسبي في دور دول "أوبك" جعل أمريكا تعيد حسابات الربح والتكلفة، وكذلك أصبحت قيمة النفط مختلفة اقتصاديا terms of trade ـــ لم يعد بالأهمية نفسها لهم و لكنه يبقى جذري الأهمية بالنسبة لنا، أيضا تطورت مصادر طاقة جديدة وهجمة بيئية عليه.
النوع الآخر من المتغيرات مفاجئ ولكنه مؤثر، حيث غالبا ما يكون للأحداث والصدف أهمية تاريخية، هذه ناحية لا تروق للمجتمعات التي تتوق للتفكير التآمري، ولكن حركة بن لادن المشينة، وغزو وتدمير العراق وتسليمه لإيران، والغضب العربي، أحداث نوعية غيرت مجرى التاريخ. هذه الأحداث أدت في المحصلة الأخيرة إلى تغير في طبيعة العلاقة والنظرة إلى العلاقة، هناك فرق بين الاثنين ولكن في السياسة أحيانا النظرة أهم من الماديات الموضوعية. هناك محاولات جادة للتغلب على التبعات ولكن قوة الأحداث تتطلب وقتا للمعالجة والتعاون.
في ظل هذه الوضعية الجديدة يبدأ الأمريكي في الرجوع إلى أولويات جديدة بناء على قراءات جديدة. أهم عنصر ينظر له الأمريكي هو مدى كفاءة من يتعامل معه. يقال إن مساهمة أمريكا في الفلسفة الغربية هي "البراغماتية" ـــ النزعة الأمريكية تميل إلى المرونة العملية واحترام الكفاءة. هذه العقلية تميل إلى الاهتمام بالمصالح. مصالح الشركات الأمريكية جزء من النسيج السياسي. الرئيس الأمريكي هاردنق قال قبل أكثر من قرن ما معناه أن مهمة السياسة الأمريكية خدمة الأعمال التجارية The business of American politics is business. هذه الظروف الموضوعية وغير الموضوعية خلقت حالة جيوسياسية في المنطقة ضاغطة أسهمت أمريكا فيها بدرجة حاسمة، ولكن أيضا يقابلها تجربة، جاءت "الرؤية" وبرنامج التحول الوطني لكي يتعاملان مع الأرضية الجديدة من الحاجة إلى رفع مستوى الكفاءة، خاصة أن المملكة لم تستغل العلاقة أحيانا لنقل المعرفة. الجانب النفسي الذي يستشعره الخارج والداخل أيضا له أهمية، فالناس لديهم حساسية أحيانا مفرطة نحو النقد، لعل بعضها مرتبط بالأنفة العربية وبعضها مرده حقيقة أن ممارسات المملكة ذات طابع سلمي وتعاوني إذ إن هناك استياء من اللوم.
العلاقة مع أمريكا ستبقى مركزية وفي أكثر من مساحة ولكن هناك بحث عن توازن جديد، أحد متطلباته رفع مستوى الكفاءة ووضوح في التشابك وتوزيع الأدوار وتوسيع دائرة العلاقات الخارجية والتخلص من تبعات الماضي النفسية. كل علاقة تمر بمد وجزر ولذلك لا بد من اليقظة والحذر.