رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التطوع وتأهيل الشباب نفسيا

دائما ما نسمع أن العسكرية هي المكان الأمثل لتأهيل الشباب نفسيا، حيث إن التدريب العسكري يظهر رجولتهم ويقضي على أسباب التراخي والترف ويرفع من درجة التزامهم وانضباطهم، ويقترح البعض التدريب العسكري لفترة معينة كعلاج للشباب الكسالى والمتقاعسين والمترفين والمستهترين وغير المنضبطين في العمل وأصحاب المشكلات ليكونوا سواعد بناء لا معاول هدم. كل ذلك كما أعتقد صحيح ولكن هل تتسع العسكرية لكل الشباب؟ وهل يمكن أن نحول العسكرية من مدارس وكليات لتخريج العسكريين لجميع القطاعات إلى قوالب لتأهيل الشباب نفسيا؟ بكل تأكيد الإجابة لا يمكن ذلك وعلينا أن نبحث عن البديل الذي يمكن أن يستوعب أعدادا كبيرة من الشباب وفي كل المناطق لتأهيلهم نفسيا واجتماعيا وتوجيه فائض طاقاتهم نحو خدمة أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم.
يقول لي مشرف على أحد برامج التطوع إنه لاحظ أن الكثير من الشباب الذين يقبلون على التطوع لأهداف لا تتعلق بقناعتهم بالتطوع وأثره في المجتمع والوطن، بل يأتون لأهداف متعددة منها رغبتهم في قضاء أوقات فراغهم في ممارسة ما يحبون أو في التواصل الاجتماعي مع أقرانهم، ومنها اكتسابهم المهارات والدخل المالي وشهادات التقدير والشكر والمشاركة، ومنهم من يأتي - وهم ندرة بالطبع - لأهداف لا أخلاقية ولكن ما أن ينخرطوا في الأعمال التطوعية جميعا حتى تتغير مواقفهم واتجاهاتهم وسلوكياتهم ومنظومة قيمهم ومفاهيمهم الأخلاقية تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين وتجاه المجتمع والوطن، حيث تشيع بين المتطوعين، أيا كانت أهدافهم من التطوع، روح التفاؤل وترتفع لديهم إرادة التحدي وامتلاك روح المبادرة وتحمل المسؤولية والتسامح والوفاء والانتماء للمجتمع والوطن، ويضيف أن كل ذلك يزداد إذا لمسوا نتائج تطوعهم على أرض الواقع ومن ذلك أن أحدهم قد تحولت حالته النفسية إيجابيا بشكل كبير بعد أن أنقذ غريقا في أحد تجمعات الأمطار من الموت المحقق حيث بات يشعر بالأهمية وقدرته على العطاء والإنجاز.
وأقول التطوع وعاء كبير متنوع قادر على استيعاب أعداد هائلة من الشباب من الجنسين وله فوائد كبيرة على المتطوعين والمجتمع والوطن. ولقد بات التطوع أحد أهم البيئات التي تحتضن الشباب وحتى كبار السن وفي جميع المناطق وفي مجالات تطوعية مختلفة لاستثمار فائض طاقاتهم وأوقاتهم بما ينعكس عليهم إيجابا نفسيا واجتماعيا ومهاريا وأمنيا، حيث إن ممارسة العطاء دون مقابل من أقوى العوامل المؤثرة في إعداد الشباب لأنها تدخل ضمن تكوينهم خلقيا ونفسيا واجتماعيا وترتقي بهم من نفسية الأخذ إلى نفسية العطاء، وبالتالي فإن وعاء التطوع هو الوعاء الأضخم الذي يتجاوز وعاء العسكرية بأضعاف مضاعفة لصناعة الإنسان المسؤول المبادر المنضبط الملتزم المِعطاء القادر على مواجهة متطلبات الحياة والدراسة والعمل بصبر وعزيمة وإصرار دون كلل أو كسل أو ملل.
ولقد تطور استخدام الدول المتقدمة للتطوع كأحد أهم العلاجات للأحداث الذين يقعون في الجنح الجنائية حيث يحكم القضاء عليهم بممارسة أعمال تطوعية لمدد متفاوتة عادة ما يكون أثرها إصلاحيا بدرجة كبيرة مقارنة بالعقوبات الأخرى التي تعقد حالة الأحداث وتدفعهم للمزيد من التعنت والإجرام.
وإذا علمنا أن للتطوع فوائد متعددة على الفرد والمجتمع والوطن، وإذا علمنا أن التطوع قرار ذاتي يتخذه الفرد بنفسه وبإرادته لتقديم ما يتمتع به من معرفة أو مهارة أو خبرة معينة لأداء واجب اجتماعي طواعية دون أي مقابل لجهده المبذول سوى مكافآت بسيطة في بعض الأحيان لا ترتقي لتكاليف العمل المؤدى، سنتساءل كيف نجعل التطوع أحد أهم عوامل تنمية الشباب والتنمية بشكل عام؟ وكيف نجعل التطوع يوفر قوة احتياطية كبيرة للتعامل مع الظروف الاستثنائية التي تتطلب طاقات أكبر من طاقات الموظفين ومن ذلك على سبيل المثال حملات النظافة لإزالة المخلفات في المدن والشواطئ والحدائق والبراري أو الاستعداد لمواجهة الظروف المناخية الاستثنائية كالأمطار الغزيرة والعواصف والرياح الشديدة، أو لمواجهة ظروف الكوارث الطبيعية والحروب؟
أو بصيغة أخرى كيف نوفر مقومات التطوع للراغبين فيه؟ وكيف نحفز غيرهم للعمل في أي من مجالات التطوع المهمة والحيوية ليزدهر التطوع وينمو في ظل علاقة مهنية وثيقة بين الموظفين المحترفين في أي جهة والمتطوعين على أساس الاحترام المتبادل والشعور بالمسؤولية لتكون لدينا قوة تطوعية جبارة فاعلة في جميع المجالات والظروف؟
يبدو لي أن جهات كثيرة ترحب بجهود المتطوعين التي بات لها الكثير من الجمعيات والتكتلات في جميع المجالات وهذا شيء جميل جدا ومشجع وبكل تأكيد سيكون أفضل لجهة الفاعلية والإنتاجية لو أن هذه الجهات التي تتبنى المتطوعين تطور قوالبها التطوعية وفق معايير دولية في مجالاتها لجذب الشباب للعمل التطوعي من جهة وتمكينهم من تحقيق النتائج المشجعة لهم للاستمرارية وبذل المزيد وتحفيز غيرهم للانخراط في العمل التطوعي من جهة أخرى، ذلك أن هذه القوالب المعيارية ستجعل الأعمال المسندة إلى المتطوعين تناسب ميولهم واستعداداتهم وقدراتهم وذات أهمية وفائدة واضحة وملموسة تحمسهم للمزيد من الأعمال التطوعية خصوصا إذا كانت الجهات المعنية بهم تقدم لهم برامج تدريبية توائم بين مهاراتهم ومهارات الموظفين المحترفين لأداء الأعمال بالكفاءة المنشودة.
إحدى الجهات الخيرية المعنية بالأيتام قامت بتجربة رائعة لتأهيلهم نفسيا حيث قامت بإعداد وتنفيذ برامج تطوعية يخططها وينفذها الأيتام لبناء روح العطاء واليد العليا في أنفسهم وكانت النتائج مذهلة والحالة النفسية والاجتماعية للأيتام تتطور بشكل ملحوظ الأمر الذي سينعكس إيجابا على استقلاليتهم وقدرتهم على الحياة بشكل طبيعي دون الحاجة للمساعدة مستقبلا.
ختاما، أتطلع إلى أن تقوم وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بإعداد دراسات وبحوث عن مجالات التطوع والتنسيق مع كل الجهات المعنية لتطوير قوالب تطوعية متنوعة وفق المعايير الدولية لجذب المتطوعين ليكون التطوع رافدا تنمويا كبيرا يُمكِن شبابنا من المشاركة في تحقيق أهداف "رؤية 2030".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي