لماذا لا نجرب؟
يقول كسنجر في خاتمة كتابه "تنظيم العالم" إن قوة الدولة في الأخير مرهونة بمدى قوة وفعالية اقتصادها أولا وقدراتها العلمية والفنية ثانيا (سبق أن نشرت عرضا عن الكتاب في عمود سابق). ما يجمع هذين العنصرين هو النزعة التجريبية المنطلقة من دور التجربة علميا، وأسهبنا في الحديث عن الخطط الكونية وتذكير بعض بالمبادئ العامة والمرتكزات والمسلمات، التي عادة يصعب الاختلاف حولها، ولكن النتائج في الأخير متواضعة، ولم تحقق أهدافنا التحديثية. أعتقد أن نقص الجرعة العلمية ممثلة في التجريب أحد أسباب الفجوة بين الطموح والإنجاز. قد يبدو لكثير أن حالة المجتمع، خاصة ما تقدمه الحكومة من دعم وخدمات للعامة ليست حقل تجارب يوصي بها هذا الاقتصادي أو ذلك المثقف. ولكن رفض قبول التجريب خطيئة علمية من الطراز الأول، وتعبير عن نقص في الثقة لغرض التعلم. التجريب والتعلم هو مفتاح الفعالية الاقتصادية وغير الاقتصادية.
لفت نظري استعداد «جنرال إلكتريك» لاستثمار 1.4 مليار دولار في مشاريع صناعية في المملكة وهي التي سبق أن وصفها مديرها السابق المشهور (جاك ولش) بأنها "شركة تعليمية" بمعنى أنها تتعلم من تجاربها لتكوين رصيد معرفي يتحول إلى عوائد مالية مجزية. وقدم التجربة والتعلم لبناء المعرفة، وما المال إلا تعبير عن هذا المسار. كفانا جلد الذات ولكن تجربتنا أقرب أن تكون العكس، حيث نغلب الحصول على المال على حساب المسار التراكمي للمعرفة. التحول التحديثي لا يبدأ دون استعداد للتجارب ورصدها وتوثيقها لفرز الغث من الثمين.
عدم قبول التجربة يعني أننا لم نأخذ بالنواحي العلمية في الطرح والممارسة. ما ينطوي تحته الاستعداد للتجارب هو مستوى الثقة بين المشاركين والحكم والتقدير على عشرات من الأفراد في البداية، ومن ثم شيوع ثقافة الثقة، وكذلك المرونة في التراجع عن الخطأ والمبالغة في التكلفة وتغليب الإنجاز على الشهادة. يبدأ التحديث من فوق، ولكنه لا يستمر ولا يأخذ بزخم مؤثر حتى يبدأ التفعيل من تحت. لعل من قائل إننا نجرب كثيرا فخذ على سبيل المثال تجارب وزارة العمل في التوطين وتجارب وزارة الصحة في تغيير الطاقم الإداري. ولكن هذه التجارب إما ناقصة حين تكون كلية (شاملة وعامة) أو ينقصها الاستعداد بتجربة في تغيير النموذج، وليس الهياكل الإدارية أو القيادات الإدارية فقط. ما أقصده بالتجريب هو محاولة كسر النماذج المعتادة واختبار أطر جديدة للتفاعل مع الأفراد والشركات والأجهزة الرقابية. التجربة الوطنية في التغير المادي المؤثر مع بدايات التخطيط منذ الخطة الخمسية الأولى في 1970 وهي في تزايد في اعتمادها على الوافدين وما تبع ذلك تدريجيا من ابتعاد المواطن عن العمل المباشر، حيث تمت مباركة ذلك بتوظيف المواطن في القطاع العام وعمليات الإسناد (out sourcing) التي جاءت تحت مسمى تخصيص زائف أو تقليص التكاليف المالية (ورفع التكلفة الاقتصادية) مثل ما حدث مع «أرامكو». كان المواطن يقوم بجميع الأعمال وبعد الإسناد تم استبعاد المواطن وتغيير دوره من فاعل مباشر إلى متفرج تحت مسمى مراقب. التحدي التجريبي أن نعيد الكرة مرة أخرى إلى ميدان "التكوين" الاقتصادي.
ميدان التجارب واسع، خاصة أن المملكة أصبحت حقل تجارب لكثير من الوافدين، فالأحرى أن نبدأ نحن بالتجريب. فمثلا نتحدث عن توطين الوظائف، ولكن هل لنا أن ندير مدينه سعودية متوسطة مثل بيشة أو حائل دون أي وافد لمدة سنتين متتاليتين وعدم استقبال أي وافد إلا سائح أو للضرورة القصوى لأيام قليلة؟ هل لجامعة الإمام وعلى نطاق ضيق في البداية، إعادة الجدل الفلسفي بين ابن رشد وخصومه لإثراء وتقويم التجربة الإسلامية المبتورة في الفلسفة؟ هل يمكن أن نصر على عدم وجود أكثر من صيدلية واحدة وأن تكون متخصصة في الحي الواحد وأن تدار من قبل مواطن لمدة ثلاث سنوات أو أربع سنوات؟ هل ممكن أن نجعل إحدى الجامعات الجديدة بحثية ونرفع المكافأة للطلاب بالضعف أو الضعفين ونطالب بالدرجات العالية، وأن تعلم الجامعة العلوم والهندسة فقط لمدة 12 سنة؟ هل لنا أن نتوقف عن المطبات الصناعية في مدينة واحدة لمدة سنة، ونقارن الحوادث مع مدينة أخرى مشابهة في عدد السكان؟
يا ترى، هل هناك علاقة بين الجنوح عن التجريب والعلاقة بضعف التعليم والإنتاجية؟ أم أنها من نسيج بناء اجتماعي محافظ لم يحاول التكيف مع التحديث؟ تسليط الضوء على فرص تجريبية من نواح مختلفة في الحياة لتعريض تجربتنا لقوى مجتمعية ومادية مختلفة نستطيع من خلالها استخلاص دروس وأنظمة خاصة ونابعة من عقولنا وتجربتنا الذاتية.