عندما يرحل رجل عظيم .. وتبقى أشياء
من الصعب أن يكون المرء نظيفا، ويتم إثبات ذلك.
من الصعب أن يكون المرء زاهدا عن الضوء والإعلام والمناصب ويتم إثبات ذلك.
من الصعب أن ينجز المرء ثم يتم إثبات ذلك.
من الصعب أن يسكت المثنون عن المرء ثم يتفجر الثناء من قلوب كثيرة بعد رحيله، ويتم إثبات ذلك.
من الصعب أن يكون المرء مثل الدكتور سليمان السليم يرحمه الله.. وقد تم إثبات ذلك.
لا أدري لم غفل مسجلو القفزة الحضارية في المملكة أكاديميا ومدنيا منجزات عن فترة السبعينيات من القرن العشرين، خصوصا في عالم الأكاديميا، خصوصا في مجرد منزل كبير مستأجر بحي المعذر بالرياض من قبل جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حاليا) ليكون مقرا لكلية التجارة، فعلا لا أعرف كيف غفل مراقبو التغيرات في الدولة السعودية عن ذلك الزمن وذلك المكان.
في ذلك الزمن وفي ذلك المكان سطعت عقول أسست لنهضة مدروسة للمملكة، بناة أرضية التطور التحتي لمشاريع غيرت وجه المملكة من الستينيات إلى السبعينيات في القرن الماضي، ثم استمرت في الصعود لتكون هذه القوة الاقتصادية الكبرى. رواد في الإدارة والعلوم الإنسانية المتخصصة وهبوا العبقرية وقوة الرؤية والتفرد المعرفي الموسوعي والشخصية القوية الجمالية، ومواهب التأثير والقيادة التي هي من منح الله.
في كلية التجارة تجمعت عقول فريدة ومميزة وكل منهم أسهم بدور تأسيسي ساطع بمنجزات الوطن الكبرى. هذه الشخصيات منها، بدون حصر، الدكتور محسون جلال، والدكتور غازي القصيبي، والدكتور محمد الملحم، والدكتور أسامة عبدالرحمن، والدكتور سليمان السليم.. عمالقة اجتمعوا في منزل بالمعذر كان هو كلية التجارة، فاخترقوا سقف الكلية، وحلقوا عاليا، عاليا جدا.
هذه الفترة يجب أن تسجل وتدرس بعناية، فأنا على ظن أكيد أن ما هو معروف عنهم قليل لتبقى كتل كبيرة متوارية تحت سطح الحقيقة التاريخية. ومع أهمية ما نعلمه عنهم تبقى هناك "أسرار" أكبر لم تعلن، أو لم تكتب، أو لأمر ما لم يلتفت لها أحد. إنها مهمة يجب أن يتصدى لها مجموعة من المتخصصين ويفصصونها بحثا ودرسا وتنقيبا وتحقيقا، لأنها لأشخاص كبار لهم دور كبير لما هو حاضر بلادنا. وأول من يجب أن يتولى هذه المهمة الشديدة الأهمية هي جامعة الملك سعود نفسها، التي كان هؤلاء العباقرة نجومها الكبار، بعضهم من التلمذة للإعادة للتدريس.
ونبقى مع الدكتور سليمان السليم وهو أقلهم حبا للظهور، وله مهارة التواري عن سقف السماء ضمن كتلة النجوم تلك. فبينما بقيت الأسماء الأخرى ساطعة وقوية في عين الإعصار الإعلامي وبدرجات متفاوتة، وإن لم يحرصوا على وسائل الإعلام تجري لتطلب رضاهم.
بقي د. سليمان السليم صنفا نادرا لم يتكرر كثيرا في وقته، ولا أظن سيتكرر بعد وقته. هو أول وزير في المملكة يتقدم برجاء قبول طلبة بالاعتذار عن الوزارة بعد أن عمل فيها لأسابيع.. وما تلك الوزارة؟ وزارة من أقوى الوزارات وتتعامل معها كل الوزارات دون استثناء، ليكون وزيرها صاحب قوة وتأثير في القرار وفي الدور وفي المكانة.. وفي شخصه، وهي وزارة المالية، وتعرف ببقاء الوزير فيها مدة طويلة يتربع فيها على قمة من قمم القرار والتأثير. وبقي هذا ظرف لم يتكرر بعده ولم يكن قبله، مسجل له وحده.
بعد الاعتذار وبعد أن خدم عقودا في مجالات عدة توارى الرجل العظيم وراء ستار حديدي لا يصله الإعلام إلا نادرا وبشق الأنفس. ولكن هل توقف عن العمل وفي أدوار مهمة لبلاده؟ على العكس توسع عمله في أكثر من قطاع، وهنا الخفاء الذي يجب أن يكشف، التواري الذي يجب أن يظهر ويسجل، ليس من أجله فهو لم يحب ذلك أساسا لحياته ولا للأسرة الكبيرة التي ينتمي إليها، ولكن من أجل الحقيقة التاريخية التي إن غابت، غابت الأجيال عن حاضرها.
ربما تكون وفاة هذا الرجل الذي سنفقده وسنفتقده جرسا يدق لينبهنا كيف ينطمر تاريخنا المهم أمامنا، وأن من أهم واجباتنا رفع ما تجمع فوقه وإخراجه ساطعا من جديد.. كي نفهم بلدنا أكثر، ونحبه أكثر، ونعمل من أجله أكثر، واقفين على منصة تاريخية قريبة تجعلنا أقوى ثباتا لتحقيق ذلك.
رحم الله الدكتور سليمان السليم، ومن اختارهم الله من كوكبة نجوم ذلك المنزل الأكاديمي، الذين وضعوا بلادهم في صدر العالم.