فاجعة تعليم الرياضيات
تعد الرياضيات أساس المعرفة، وعنصرا أساسيا في تطور مختلف العلوم، وقد وصفها العالم الرياضي إسحاق نيوتن بأنها "ملكة العلوم وخادمتها". وتعتبر الرياضيات من العلوم المهمة والضرورية لأي فرد مهما كانت ثقافته لأنها تأخذ حيزاً مهماً في الحياة ويحتاج إليها الفرد في اتخاذ القرارات المتعلقة بأمور حياته اليومية.
وللرياضيات دور رئيس في تقدم الكثير من المجتمعات لأنها تعمل على حل الكثير من المشكلات التي تعترض المجتمع الذي يسعى لأن يكون مجتمعاً علمياً تقنياً.
ولذلك فقد نالت الرياضيات مكانة أساسية في مختلف المراحل التعليمية وبين كل المقررات الدراسية، فدراسة الرياضيات تسهم في تنمية القدرات العقلية للمتعلمين، وتكسبهم مهارات عديدة لازمة لدراسة المقررات الأخرى، إضافة إلى ما لها من تطبيقات حياتية مهمة للفرد والمجتمع. ومن ذلك كله كانت أهمية تعليم الرياضيات في المراحل المختلفة، والاهتمام بكيفية تعليم وتعلم الفرد وكيفية إتقانه لاستخدام المهارات الرياضية في حياته اليومية.
ولقد برع العلماء العرب والمسلمون في العلوم الرياضية وأجادوا فيها وأضافوا إليها إضافات مهمة أثارت إعجاب ودهشة علماء الغرب، فاعترفوا بفضل العرب وأثرهم الكبير في تقدم العلم، وقد كان للعرب والمسلمين إسهامات فاعلة في تاريخ الرياضيات، خاصة في موضوعات الحساب والجبر والمثلثات والهندسة.
ولكن الأحوال تغيرت فأصبح العرب في مؤخرة قائمة التميّز في الرياضيات، وظهر الوهن والضعف في نتائج طلابنا محلياً ودولياً، وأصبحنا في أزمة حقيقية وخطيرة في تعليم الرياضيات.
فقد بدأت مؤشرات الأزمة منذ كشفت التقارير الدولية عن قصور واضح في مستوى الطلاب في الدول العربية بشكل عام وفي المملكة العربية السعودية بشكل خاص في الرياضيات، الأمر الذي يشير إلى وقوع الطلاب في أخطاء ناتجة عن قصور المناهج الدراسية وخلوها من بعض الموضوعات أو قصور في طرق التدريس التي يستخدمها المعلمون وتركيزها على جوانب معرفية محددة لا ترتقي إلى المستويات العقلية العليا التي تزخر بها أسئلة الاختبارات الدولية.
وتعد دراسة التوجهات الدولية في الرياضيات والعلوم TIMSS من أكبر الدراسات الدولية في هذا المجال، وهي واحدة من الدراسات التي تشرف عليها الرابطة الدولية للتقويم التربويIEA International Association for Evaluation of Educational Achievement وهي لتقييم مستوى الأداء في الرياضيات والعلوم معاً للصفين الرابع والثامن وبصورة منتظمة كل أربع سنوات.
وبالاطلاع على نتائج طلابنا في كل منTIMSS(2003) ،TIMSS(2007) ،TIMSS(2011)، TIMSS(2015) نجد الضعف الواضح والخطير في مستويات طلابنا، ما جعلهم يحصلون على المراتب الأخيرة في التصنيف الدولي، وبمتوسط درجات أقل بكثير من المتوسط العالمي المقبول.
ومع هذه النتائج السيئة التي تعد مقياساً لضعف تعليم الرياضيات لدينا نادى عدد من الخبراء والمختصين بضرورة التطوير ومعالجة تلك المشكلات التي تعصف بتعليم الرياضيات في مدارسنا.
وقد استشعرت وزارة التعليم بمختلف مسمياتها (وزارة المعارف، وزارة التربية والتعليم) أهمية تعليم الرياضيات وتطويره، وقدمت عديدا من المبادرات التطويرية، وكان من آخرها كتب الرياضيات المطورة المترجمة من أحد السلاسل العالمية.
ومع تفاؤل بعض المختصين في تلك الجهود، وأملهم أن تكون نقطة الانطلاق نحو مستوى مشرق لطلابنا في الرياضيات، ظهرت الفاجعة والصاعقة القوية ولكن هذه المرة من الداخل، حيث أعلن الدكتور نايف بن هشال الرومي محافظ هيئة تقويم التعليم العام في مؤتمر صحافي نتائج الاختبارات الوطنية للعام الدراسي 1435/1436هـ وقد جاء فيها أن:
- 43 في المائة من طلاب الصف الثالث الابتدائي لم يحققوا الحد الأدنى من مستويات التحصيل المتوقع منهم في مقرر الرياضيات.
- 41 في المائة من طلاب الصف السادس الابتدائي لم يحققوا الحد الأدنى من مستويات الأداء المتوقع منهم في مقرر الرياضيات.
ومما لا شك فيه أن هذه النتائج مؤلمة للمجتمع، وتعطي رسالة قوية لوزارة التعليم بضرورة العمل الجاد البعيد عن التقليدية والبيروقراطية والتحرك السريع لإنقاذ طلابنا ومجتمعنا من هذا التدهور الخطير، وتؤكد تلك النتائج أن الجهود التي قامت بها الوزارة مشكورة لم تكن كافية.
وينبغي لوزارة التعليم الاستفادة من كل الخبرات المتوافرة بكثرة ولله الحمد داخل قطاعات الوزارة بشقيها (التعليم العالي والتعليم العام) ووضع خطة استراتيجية واضحة المعالم ومعلنة للجميع وبكل شفافية لحل مشكلات تعليم الرياضيات وتطويره تحقيقاً لتطلعات ولاة الأمر.
واستشعاراً للمسؤولية المهنية لكوني أحد المختصين بتعليم الرياضيات فإنني أضع أمام المسؤولين مجموعة من المقترحات التي يمكن الإفادة منها في وضع الخطة التطويرية لتعليم الرياضيات، وهذه المقترحات موجهة لمجموعة من الجهات التي ينبغي أن تعمل بمنظومة واحدة وبتناغم وتكامل واضح، وبإشراف من جهة عليا كالآتي:
أولا: وزارة التعليم:
وهي الجهة المسؤولة الأولى في معالجة الوضع الراهن والاستفادة من التجارب الناجحة عالمياً، والاستعانة بمختصي تعليم الرياضيات من الداخل والخارج في رسم خطط التطوير لتشمل كلا من:
1. أهداف تعليم الرياضيات والتركيز على رفع مستويات التفكير وتنمية المهارات المختلفة مثل: مهارة حل المشكلات، ومهارات التواصل والترابط والاستدلال والتمثيل الرياضي، ومهارات التعلم الذاتي.
2. المحتوى الدراسي: ويراعى فيه المعايير العالمية مع ثقافة الوطن وثوابته، ويتم تنظيم المحتوى وفقاً لأحدث نظريات التعلم، والبعد عن الحشو المعرفي.
3. طرق التدريس: الاعتماد على أحدث طرق التدريس التي أثبتت الدراسات العلمية جدواها في تدريس الرياضيات وتوظيفها داخل مدارسنا.
4. أساليب التقويم: نحتاج إلى مراجعة نظام التقويم المعمول به في المرحلة الابتدائية والمتوسطة بالذات وتطويره وتلافي السلبيات التي ظهرت، والاستفادة من الاتجاهات الحديثة في التقويم التربوي وتوظيف ذلك في نظام التقويم وأساليبه في تعليم الرياضيات.
5. التقنية: وللتقنية دور مهم في تعليم الرياضيات يظهر ذلك في المواقع التعليمية والبرمجيات والتطبيقات المختلفة والمتنوعة التي يمكن توظيفها في تدريس الرياضيات، ما يجعل تعلم الرياضيات أكثر متعة وفائدة وسهولة ووضوحا.
6. البيئة المدرسية: لقد حان الوقت لنجعل مدارسنا بيئة جاذبة للطالب، ومناسبة للمعلم لأداء مهامه التربوية والتعليمية. فينبغي جعل المدرسة مكاناً متكاملاً من حيث الخدمات التعليمية والخدمات المساندة وبشكل جاذب جميل، فلابد من توفير القاعات المناسبة المجهزة بالتقنيات اللازمة، والمعامل الحديثة وشبكات الاتصال والمكتبة والملاعب والساحات، إضافة إلى جودة الإضاءة والتكييف والأثاث.
7. التدريب النوعي للمعلمين والبعد عن التدريب التقليدي الذي أصبح شكلياً وغير مفيد عملياً ولا نجد له أثراً في قاعة الدرس، وإنما ينضم له المعلم ليكتسب نقاطاً للمفاضلة فقط وليس للتطوير المهني. وينبغي أن يكون هناك دقة في تحديد الاحتياجات التدريبية لكل معلم وإخضاعه لبرامج تدريبية مركزة.
8. مبدآ الثواب والعقاب: أعتقد أن طبيعة المرحلة التي نمر بها في تعليم الرياضيات تجعلنا نحتاج وبقوة إلى تطبيق هذين المبدأين التربويين المهمين سواء مع الطلاب أو المعلمين، فتوضع مجموعة من الحوافز المقننة مادية ومعنوية للمجتهد الساعي للتطوير مع وضع آليات واضحة لعقوبات مادية ومعنوية للمقصر في عمله.
ثانيا: الجامعات السعودية:
يقع على عاتق الجامعات السعودية مسؤولية كبيرة في الإسهام بمعالجة وتطوير الوضع الراهن لتعليم الرياضيات بما لديها من خبرات أكاديمية وبرامج دراسية ومراكز بحثية وجمعيات علمية، ويمكن توضيح بعض الأدوار التي يمكن للجامعات القيام بها كالآتي:
1. تطوير برامج إعداد معلمي الرياضيات في ضوء أحدث الاتجاهات التربوية بما يحقق رفع كفاءة الخريج العلمية والمهنية.
2. تطوير برامج الدراسات العليا في تخصص المناهج وطرق تدريس الرياضيات ليسهم في تطوير القيادات التربوية في التخصص من معلمين ومشرفين تربويين.
3. حث أعضاء هيئة التدريس المتخصصين على تقديم بحوث علمية ميدانية ذات مردود علمي وتطبيقات ميدانية أكثر نفعاً من البحوث التقليدية التي هدفها الترقيات العلمية أكثر من الثمرة العلمية والعملية.
4. توجيه بحوث طلاب الدراسات العليا لحل مشكلات تعليم الرياضيات والإسهام في تطوير الوضع الراهن.
5. تنظيم البرامج التدريبية النوعية للمعلمين والمعلمات وفق خطة مقننة بالتنسيق مع إدارات التعليم في المناطق المختلفة.
6. قيام الجمعيات العلمية المتخصصة والكراسي والمراكز البحثية ذات العلاقة بتنظيم اللقاءات العلمية وورش العمل والمؤتمرات الإقليمية والدولية لرفع مستوى تعليم الرياضيات، وتقديم الدعم المالي والمعنوي للفرق البحثية وتسهيل مهمتها للقيام بواجباتها في هذا المجال.
ثالثا: المشرفون التربويون والمعلمون:
ويقع عليهم مسؤولية عظمى باستشعار الأمانة والمسؤولية في رفع المستوى وتحقيق متطلبات مهنة المعلم، فهذه المهنة ليست مجرد وظيفة يحصل الموظف من خلالها على مصدر دخل، وإنما مهنة عظيمة من ينتمِ لها فعليه الالتزام بواجباتها، ومن ذلك معرفة أثر هذا التعليم ونواتجه في المجتمع، والسعي إلى تخريج الطلاب بأفضل مستوى علمي وخلقي، وهذا لن يتم إلا بمعلم مخلص قوي علمياً ومهنياً فعليه السعي لمعالجة ضعفه وتطوير مستواه وبمساعدة ودعم من المشرف التربوي.
رابعاً: أولياء الأمور والطلاب:
يجب أن نفعل العلاقة بين ولي الأمر والمدرسة، وأن يقوم ولي الأمر بدوره داخل المدرسة وخارجها، فالزيارات المتتابعة للمدرسة والوقوف على مستوى الابن والنقاش مع المعلم بشكل مباشر ومطالبته ببعض الأدوار وتقديم الملحوظات قد تسهم برفع أداء المعلم والطالب، كما أن على ولي الأمر مسؤولية متابعة الابن خارج المدرسة والتأكد من قيامه بالمهام المطلوبة منه ومراجعة دروسه أولاً بأول.
ويبقى الطالب الحلقة الأهم في هذه المنظومة، ولولاه لما وجدت المدارس والمعلمون وإدارات التعليم والجامعات ووزارة التعليم.
أرأيت ابني الطالب كيف أنك مهم لنا؟! فكل هذه القطاعات لم توضع إلا لأجلك!
فأنت مستقبل بلادنا الذي ستقودها إلى ميادين التطور والرقي والقوة بين دول العالم، فلابد أيها الطالب الذكي أن تستشعر أهمية التعليم والمعرفة والنجاح القوي الذي يكسبك العلم والمهارات الحياتية اللازمة لتكون قائداً تسهم في رفعة شأن وطنك في المستقبل.
وفي الختام فإني لا أقلل من الجهود المبذولة في وزارة التعليم بمختلف قطاعاتها، ولكنها خواطر في النفس بعد التدهور الكبير في نتائج تعليم الرياضيات في وطني.
وآمل أن تكون هذه الكلمات نواة لخطط مستقبلية يتم بناؤها وفق أسس علمية مع وضع إجراءات التنفيذ بشكل عاجل وبخطوات معلنة للجميع.
وأسأل الله التوفيق والعون لوزارتنا ولإخواننا المعلمين ولأبنائنا الطلاب.