القضايا الاقتصادية السعودية الخمس «1»
أكاد أجزم بأن الاقتصاد السعودي يستطيع أن يتقدم بسرعة كبيرة إلى مراتب أعلى ضمن اقتصادات العالم إذا تغلب على خمس قضايا وتم حلها بجدية وسرعة، أولها فجوة الرواتب، ثم تنظيم المنافسة في سوق العمل، ثم الإسكان، ثم تفسير علاقة الحكومة بالاقتصاد، ثم فهم الرقابة ومحاربة الفساد. سأبدأ اليوم في مسألة فجوة الرواتب وهي أخطر القضايا في الاقتصاد السعودي، وفي هذه المسألة سأورد خبرا عن إيقاف مزايا وبدلات مسؤولين حكوميين رواتبهم أعلى من الوزراء، وهذا الخبر هو أعراض لمشكلة أكثر عمقا، سبق وتحدثت عنها في مقالات كثيرة سابقة.
الأجور أعقد موضوعات علم الاقتصاد، فكيف يتم تفسير حق العامل أو الموظف في الأجر الذي يحصل عليه، وارتبط كثير من مفاهيم الأجر بحجم الإنتاج وقيمة الثروة التي يتم الحصول عليها من بيع الإنتاج الذي أسهم فيه العمال، وبعد نقاشات طويلة وصراع مرير جدا وثورات تلتها ثورات ودساتير ألغتها دساتير، اعترف العالم بأن للعمال حقا في الإنتاج وعليه فمسألة الأجور يجب ألا ترتبط بعدد العمال في الاقتصاد بل بحجم الثروة التي نشأت في الاقتصاد، ثم وصلنا إلى مفهوم الحد الأدنى من الأجور، وحجم هذا الحد الأدنى يمثل قوة العمال في الاقتصاد وتأثيرهم السياسي على الحكومة، "نتذكر هنا قصة صراع عمال المناجم مع الحكومة البريطانية" ولا يزال الموضوع معقدا جدا ويتسبب في نقل المصانع من دولة إلى أخرى وخروج الأموال وهجرتها من بلد ترتفع فيه أجور العمال إلى بلد تنخفض فيه الأجور، ولهذا تبذل القوى السياسية جهدا للسيطرة على عمالها وارتفاع الأجور حتى تتمكن من تشجيع الاستثمار الأجنبي فيها.
لكن الصورة التي بدأ بها الصراع بين العمال والرأسماليين تغيرت كثيرا في أواخر القرن العشرين والقرن الحالي، فلم يعد هناك رأسماليون بهذا المعنى، لقد أخفت الأسواق المالية ونماذج التمويل الحديثة صورة الرأسمالي الذي رسمته قصص شكسبير، ولكن اليوم لدينا صورة بديلة تماما وهي صورة التنفيذيين في الشركات المساهمة وأعضاء مجالس الإدارة. هؤلاء يسعون بكل جهدهم إلى تعظيم مكافآتهم ومزاياهم على حساب العمال وأجورهم وعلى حساب المساهمين، وهذه ظاهرة عمت العالم ولسنا استثناء من ذلك ومن يقرأ ويتابع حجم المكافآت التي يحصل عليها الرؤساء التنفيذيون ورؤساء مجالس الإدارة والعمليات مع ذوي العلاقة التي تصب في مصالح أعضاء مجالس الإدارات يفهم هذه الصورة بوضوح.
في هذا الجزء من المقال لن أتحدث عما يقوم به الرأسماليون الجدد في الشركات المساهمة وفي القطاع الخاص بكل تفاصيله، لكنني أتساءل عن هذه العلاقة في جهات حكومية ليست لها إنتاج حقيقي للثروة، بل مجرد خدمات لقطاع إنتاجي منفصل تماما. لعل هذه النقطة بالذات هي التي تجعلني أخصص موضوعا ـــ سيأتي لاحقا ـــ لعلاقة الحكومة بالاقتصاد، فيجب التفريق بين قطاع حكومي إنتاجي يهدف إلى تقديم منتجات بأسعار مدعومة "يجب خصصته لاحقا" وبين قطاع خدمي لا إنتاج له. أقصد بالإنتاج هنا هو توافر عوامل الإنتاج بيد جهة واحدة تمكنها من استخدام هذه العوامل من أجل إيجاد القيمة للاقتصاد وزيادة حجم الثروة التي ننتجها.
فالأصل إذا كان معظم الرواتب التي تصرفها الحكومة للموظفين بها، لا علاقة لها (مباشرة) بحجم إنتاج الثروة في الاقتصاد، فكيف نفسر حجم الرواتب في الحكومة إذا؟ هذه من أصعب القضايا، ولهذا يجب أن نقارن الرواتب في القطاع الحكومي برواتب القطاع الخاص، فلا يعقل أن يكون للموظفين في الحكومة رواتب بمزايا تزيد على مزايا أمثالهم في القطاع الخاص وإلا انفلت الاقتصاد وأصبح في حالة حرجة نظرا لهروب الموظفين من القطاع الخاص المنتج للقطاع العام غير المنتج "وهذا له آثار تضخمية خطيرة على المدى البعيد" وكل التفسيرات التي تسعى إلى تبرير حصول بعض موظفي الدولة على مثل هذه المزايا كالتي ذكرها الخبر أعلاه وظهرت في بعض الهيئات والوزارات حتى تجاوزت رواتب بعض الموظفين راتب الوزير، أقول كل هذه التبريرات لا معنى لها سوى الحصول على غير ما يستحقه الموظف، فالبعض يبرر هذه المزايا والرواتب بالكفاءة، لكن خدمات القطاع الحكومي لا علاقة لها بالكفاءة (نوعا ما)، بل هي لوائح قانونية يتم تطبيقها في الأغلب تحتاج إلى بعض التدريب، والبعض يرى صعوبة جذب الكفاءات من القطاع الخاص للحكومة دون دفع هذه المزايا، والرد أنه من الخطأ الكبير الجسيم جذب الكفاءات من القطاع الخاص لإدارة الحكومة أو أي قطاع فيها، فالأصل أن الحكومات تعمل لدعم وتنظيم عمل القطاع الخاص الذي ينتج الثروة الاقتصادية للبلاد، بينما الحكومة لا تقوم بذلك، فإذا قمنا بجذب الكفاءات من القطاع الخاص إلى الحكومة فلن ينصلح وضع الحكومة وسيتأثر الاقتصاد بشكل كبير نظرا لضعف الكفاءات فيه. وإذا كان هناك من يرغب في العمل في القطاع الحكومي فعليه أن يتقاضى راتبا مقننا في الحكومة (الكادر) وليست لذلك علاقة بنوع عمله، لأن الرواتب في الحكومة يجب أن تكون مقننة وعادلة متساوية بين موظفي الدولة وتكون الرواتب محدودة "ولهذا نسميهم ذوي الدخل المحدود". وأي انحرافات في هذا الأمر ستقود إلى كارثة اقتصادية كالتي عانتها اليونان والبرازيل وتعانيها الآن وبشدة فنزويلا.
خلاصة هذا المقال أن هناك فجوة رواتب في الاقتصاد السعودي بين القطاعين الخاص والحكومي، وأيضا هناك فجوة بين الموظفين الذين تسربوا للقطاع العام من الخاص ولهم مزايا مرتفعة حادة وأيضا هناك فجوة بين الوزارات والهيئات المستحدثة، والسبب في كل هذا أمران معا، الأول أن الدولة هي المحتكرة لإنتاج النفط وهي التي تحصل على إيراداته كافة، والآخر أن الدولة تسعى إلى إعادة توزيع ثروة النفط على موظفيها من خلال الرواتب. ولأن دخل الحكومة يأتي كله تقريبا من بيع ثروة النفط، فقد جاءت الرواتب في الحكومة مرتبطة بحجم الثروة النفطية وغير مرتبطة بحجم الاقتصاد الإنتاجي نفسه "في القطاع الخاص"، وبينما جاءت الرواتب في الاقتصاد الإنتاجي ضعيفة جدا نظرا لضعفه "ولفجوات واسعة هناك"، ظهرت فجوة رواتب بين حجم العمل في الحكومة وحجم الرواتب فيها وبين حجم العمل في القطاع الخاص وحجم رواتبه. ولهذا يقوم شاب متخرج في كلية طب الأسنان بتمزيق شهادته لأنه لم يجد عملا في الحكومة "برواتب الحكومة"، بينما هناك فرص العمل متوافرة بكثرة في القطاع الخاص لكن بمستوى رواتب القطاع الخاص.
إذا نحن في حاجة إلى إعادة النظر في مستويات الرواتب في الحكومة، خاصة الهيئات المستحدثة وكذلك المزايا غير العادلة لبعض من تسرب من القطاع العام للحكومة، نحن في حاجة إلى تصحيح وضع القطاع الخاص في مستويات الرواتب حتى نستطيع أن نقدم تفسيرا لمستويات الرواتب في الحكومة وهذا موضوع المقال المقبل.