رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الشهرة وإعاقة الحرية

الشهرة قيد، والشهرة تضاد الحرية وتؤطرها بحدود رضا الجمهور، وبحدود المقبول عندهم، والمرضي عنه لديهم، وديمومة الرضا تفتقر إلى التوافق الدائم وعدم الاختلاف! وعند الحرص عليها، أو الخوف من فقدها، تحوله الشهرة إلى ـــ رهينة ــــ لا يملك قرار حياته عندها، وهي وحدها التي تقرر حرية عقله وفكره وشروط هذه الحرية! هذا من أزمنة بعيدة في سلوك الفقهاء بمصطلح قديم اسمه (خوف العامة) والعجز عن مخالفتهم أو الاصطدام بهم!
وهذا ما يبرر المفارقة بين الفتوى وبين كتب الاستدلال، عند بعض الفقهاء، لأن بعضهم يخشى على نفسه منهم بأكثر من انصرافهم عنه إلى غيره في الفتوى! فطغيان العامة أخطر مما نتصور، فالنسائي ـــ رحمة الله تعالى عليه ـــ انفتق من قسوة ضرب أهل الشام له، لأنه قال في معاوية ما يعتقده، وما انتهت إليه قناعته، والمفكر الذي تقع عينه على ـــ مكانته من الناس ـــ لا ترتفع لرؤية الحقيقة المجردة، ويعوزه الإفصاح عنها إن بلغ وانتهى.
ولعله يعاق بداء إدمان الظهور، وإدمان طلب الرضا من الناس، لاحظنا أحد الدعاة (يميع) الحكم الشرعي على اللواطيين أثناء زيارته لأوروبا، بالمقدار الذي لا يثير رفضهم، أو عدم قبولهم.. حتى إنه كان أقل شجاعة من الرئيس روبرت موجابي رئيس زمبابوي الذي رد على الرئيس الأمريكي أن يجعل نفسه نموذجا صالحا من خلال قبوله أن يكون زوجة له! في رفض دعوته إلى حرية الشواذ ..! لأن موجابي ليس حريصا كثيرا على شعبية المتابعين في أوروبا والولايات المتحدة.
صحيفة فاضلة تنقاد إلى حذف ما لا يقبله العامة عنها، وبهذا تنخفض حريتها أمامهم في كل مرة تستجيب إليهم بحذف المادة التي لا تروق لهم، وبهذا تحولت هي إلى تابع لما يمليه الجمهور عليها، وفقدت دورها كقائد، يقودهم إلى وعي جديد، وفهم مختلف، وإلى التطور الذي يبدأ أوله بالتصادم مع المسلمات السابقة التي لا تقبل النقد في ظنهم..!.
لقد تكون الغول الطائفي، الغول القبلي، وغول القناعات الوهمية، وغول الخطأ والصواب في عقول العامة، والشائع الذي لا أصل له، والسنن التي لا تنتسب إلى سنة، والعادات التي تولدت من جاهلية عمياء، وحين إذ تجد الحرصاء على المتابعين، وعلى هامش رصيد الأتباع، يستغشون ثيابهم عنها ليتوقفوا عند دغدغة المشاعر بما هو مرغوب فيه ومرضي عنه.
هذا الخوف هو الذي يبقي كل شيء دون تطوير فيه، أو ترق عنه، أو الحركة لما هو أفضل منه، وهذا الذي يجعلنا نخاف من النقد، بقدر خوفنا من الصدق فيه، لأننا جميعا نخاف من بعضنا، خوف مكاشفة.. العالم أسير أتباعه، والداعية رهينة رضا جمهوره عنه والمفكر يخشى عقوبة فضح الخطأ في عقول الناس! فكل إنسان لزمه إدمان جديد لم يعهده عقله، وعبدته نفسه، إدمان رضا الأتباع، وإدمان الخشية من فقدهم وانفضاضهم من متابعته، والمشي خلف كلماته.. وأقواله.. وحركة ظهوره المزمن!
لقد أتى على الناس حين من الدهر، كانت الفضيلة في الزهد في الظهور، وكان من أثقال القلب كثرة الأتباع، لأنه يصعب على القلب الإخلاص في الأفعال والأقوال، ولأن الخلق هم دائما حجاب عن الله وعن النفس والعقل.. ولأن كل قرب منهم هو بعد عن العمق بقدره.. وإن طهارة القلب لها علة وحيدة هي العمى عن غيره، ورؤيته، وإحلاله القلب بتمامه لأن القلب هو حرم الله ولا يسكن حرم الله إلا ذكره والضراعة إليه وحبه!
وأصبحنا على قيد جديد من قيود الحرية هو قيد الجماهيرية وقرقعة نعال الأتباع وضجة الأصوات بالثناء.. وهو من أشد القيود ثقلا على الحرية والنقد وإعادة تكوين الوعي! وذاك لا تبصره النفس إلا وهي مغمورة الحضور بين يدي الجمال كله والجلال بتمامه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي