معايير بناء الاقتصاد السعودي
بات التحول الاقتصادي السعودي الراهن، المادة اليومية للمختصين والمسؤولين في المؤسسات الاقتصادية الدولية، كما فرض نفسه على الأبحاث والتحليلات المختصة وتلك التي تتناولها وسائل الإعلام العربية والغربية المختلفة. والسبب يعود أساسا، إلى ما تتمتع به المملكة من حضور على الساحة الاقتصادية العالمية، وقوتها الإقليمية في هذا المجال، إلى جانب (طبعا) تاريخية هذا التحول، لأنه يبني اقتصادا وطنيا جديدا لا يشبه أي مرحلة مر بها الاقتصاد السعودي منذ نشوء الدولة. فـ "رؤية المملكة 2030" هي في الواقع "ورشة" بناء اقتصادي، لا تؤثر فقط في الساحة المحلية بل العالمية أيضا، نظرا لما تتضمنه من حراك استثماري وتنموي واستراتيجي، بما في ذلك إنشاء الصندوق السيادي الهائل الذي يقدر حجمه بأكثر من تريليوني دولار، وطرح جزء بسيط من شركة أرامكو للاكتتاب العام.
إشادة صندوق النقد الدولي بالحراك الاقتصادي السعودي الراهن، ليست جديدة. فقد اعتبر هذا الصندوق أن المملكة تقوم بتحول اقتصادي تاريخي يحاكي المستقبل، ويتعاطى بحكمة وبرؤية عميقة مع المتغيرات الراهنة، ولاسيما تلك المتعلقة بالهبوط الهائل لأسعار النفط، للأسباب التي يعرفها الجميع، التي تتلخص بإصرار السعودية بإرادتها الحرة على حتمية إصلاح السوق النفطية، وإدخالها في مرحلة من الاستقرار والاستدامة. وهذا لوحده يؤكد مجددا، أن الرياض لم تتراجع - رغم الخسائر الكبيرة - عن تحقيق هدفها، ولا سيما أنها المحرك الأول لهذه السوق، والمحرك الأهم الفاعل فيها. من هنا، يمكن النظر إلى قدرة المملكة على الالتزام برؤيتها الاستراتيجية التاريخية، والمضي قدما في عملية إصلاحات مكلفة لكنها ذات مردود مستدام يضمن الحقوق لجميع الأطراف المعنية.
تمضي السعودية قدما في الكثير من الإصلاحات، بما في ذلك فرض ضريبة القيمة المضافة في عام 2018 التي وجد فيها صندوق النقد الدولية خطوة مهمة وقوية في عملية البناء الاقتصادي، إضافة طبعا إلى الخطط المحكمة في عملية إدارة الدين، عن طريق خفض الإنفاق في ساحات يمكن أن يخفض فيها، وطرح السندات المحلية والخارجية، إضافة طبعا، إلى المشاريع المتعددة الخاصة بالتحول إلى حراك اقتصادي غير نفطي. ومسألة إدارة الدين تمثل في الواقع حجر الزاوية لمؤسسات كصندوق النقد الدولي، لأن كثيرا من البلدان التي واجهت (وتواجه) تراجعا في إيراداتها أغرقت نفسها في عمليات دين خطيرة. فالمملكة تعرف تماما كيف تدير هذه المسألة بأكبر قدر من العوائد اللازمة، وأقل مستوى من المخاطر. فلا عجب، من ترقب جهات استثمارية دولية كبيرة أي برنامج سعودي لطرح السندات.
لا شك أن هناك الكثير من الخطوات أمام حزام البناء الاقتصادي في المملكة، وكلها تدخل ضمن الإطار العام لـ "رؤية المملكة 2030"، بما في ذلك إصلاح سوق الوقود المحلي، وإيجاد فرص العمل للسعوديين. وكل هذا حظي بإشادات من جهات دولية حكومية ومحايدة. فالعمل على بناء الاقتصاد يتطلب وقتا يكمن في الموعد النهائي لتنفيذ الرؤية المشار إليها. دون أن ننسى، أن ما تقوم به المملكة ليس إصلاحا اقتصاديا. إنه بناء اقتصاد جديد على أرضية استراتيجية، يتناغم بمرونة مع أي متغيرات وتحولات ومفاجآت سواء محليا أو عالميا. والنتائج آتية، من خلال عديد من القطاعات ولا سيما تلك غير النفطية، والقطاع الخاص الذي يمثل شريكا استراتيجيا حيويا ليس فقط في جني الأرباح والفوائد بل في عملية البناء الاقتصادي نفسها. إنها مسألة وطنية خالصة تنفذها المملكة بأعلى مستوى من الاحترافية والعمق الاستراتيجي.