الإشكالية الاقتصادية .. بيئيا
لأسباب بيئية كانت الجزيرة العربية في معظمها فقيرة الموارد وبالتالي قليلة السكان وبالتالي كانت مصدرا للهجرات لقرون. تغير الاتجاه منذ الخمسينيات من القرن الماضي إلى آن أصبح تيارا جارفا منذ السبعينيات وما زال مستمرا كما تشهد عليه الحركة البشرية والمرورية في كل المدن السعودية والخليجية. أصبحت المملكة محطة استقبال كبيرة لهجرة اقتصادية مؤثرة. السبب الموضوعي اقتصادي على أثر الثروة النفطية واختيار المملكة سياسة الباب المفتوح اقتصاديا وعلاقة ذلك بالتهاون مع الاستقدام. البعد الإيكولوجي يتمخض في الضغط السكاني على بيئة غير مواتية في الموارد تاريخيا وخاصة في توافر الماء والأراضي الخصبة، صاحب ذلك تباطؤ واضح في إيجاد بيئة بديلة. قرار التوسع الاقتصادي على خلفية تاريخية بسيطة فتح باب هجرة دنيوية غير مسبوقة إلى المملكة. التوسع الاقتصادي أخذ نزعة استهلاكية واضحة ما سبب ضغطا متواصلا على النظام الإيكولوجي الحساس. في نظري هذا أهم تطور اقتصادي اجتماعي حدث في المملكة على مدى الـ 60 عاما الماضية ولكن لم تعط تجربة المملكة حقها من الدراسة والبحث.
حدث تحول اقتصادي معتبر وإلى حد أقل اجتماعي مصاحب للهجرة الاقتصادية ولذلك هناك تلازم مباشر بين الهجرة والرفاهية وصل لغالبية المواطنين. لم يحدث تقدم مواز في الإنتاجية والنمو العضوي ولذلك سمحت سياسة الرفاهية بتجاوز التكاليف الاقتصادية والاجتماعية الباهظة إلى حين، خاصة أن التكاليف البيئية عادة لا تكشف في الأرقام والحسابات التقليدية. يقول أيان مورس في كتابه: لماذا يحكم الغرب.. إلى الآن إن الجغرافيا تحدد التطور الاجتماعي وإن التطور الاجتماعي يقود إلى تطورات اجتماعية أخرى. من ناحية اقتصادية فنية لم يكن هناك تفريق بين التوسع في القاعدة الاقتصادية (تحديث البنية التحتية وتطوير الأجهزة الإدارية والمالية وغيرها من قطاع الخدمات) والنمو (تراكم رأس المال المادي والمعرفي والتنظيمي). في المراحل الأولى كان الاستقدام ـــ الاسم المقبول للهجرة الاقتصادية ضروري لزيادة سعة الاقتصاد. تدريجيا تحول توظيف الهجرة الاقتصادية من التوسع لتهيئة مرحلة جديدة من النمو إلى وسيلة للتوسع في منظومة الرفاهية. الرهافية جاءت على حساب إيجاد "عقلية" جديدة لدى المواطن بما تحمل وتتضمن من سلوكيات منافية ليس للإنتاجية فقط وإنما للبناء المجتمعي المنتظم. ما بدا كضرورة انتهى بقبول بل رغبة ملحة على المحافظة على المعتاد وكأن الإنتاجية والتعليم في آخر متطلبات التنمية والنمو الحقيقي والعميق.
انتهت دولة الرفاهية بتوظيف نحو 90 في المائة من المواطنين في القطاع العام أو شبه العام، بينما نحو 90 في المائة من المهاجرين الاقتصاديين في القطاع الخاص. صاحب ذلك بطالة بأشكال مختلفة عن المعروف في أغلب الدول. تقوم الوزارات والهيئات الحكومية بمحاولات لإصلاح المعادلة منذ عقدين على الأقل وبنجاح محدود، بل إن المجتمع يدفع فاتورة عالية ـــ حيث أصبحت هذه المحاولات مصدر تكلفة مؤثرة، إضافة إلى التكلفة المباشرة للهجرة الاقتصادية. توسيع الحديث إلى حد وصفه بالإيكو لوجي يتطلب تقدير مكامن المخاطر المجتمعية الشاملة وهذه تتطلب السيطرة على معايير ليست في مقدوري ولم اطلع على دراسات في هذا الشأن. ولكن الشواهد كثيرة منها اقتصاديات المياه واستهلاك نسبة كبيرة من النفط والزحام في المدن وتردي البيئة العامة فيها وصعوبات توظيف المواطنين، بينما هناك تزايد في القادمين. استمرار المعتاد له نهاية وقد وصلنا الآن إلى مرحلة جديدة. المرحلة الجديدة تتطلب فكرا جديدا و ليس إعادة الفكر المعتاد في قوالب جديدة.
حصلنا على فرصة تاريخية لكسر الجغرافيا والجمود الاجتماعي علينا المواصلة. الحل الحقيقي الذي يجمع بين الحالة الإيكولوجية المتشبعة التي وصلنا إليها الآن والضرورة الاقتصادية الملحة التي بدأنا التعامل معها من خلال «الرؤية» يأتي من خلال التقليل والحد من الهجرة الاقتصادية لاستعادة درجة من التوازن في المجتمع اقتصاديا واجتماعيا. عمليا لابد أن يكون التقليل تدريجيا، ولكن لابد أن يكون الاتجاه واضحا. الخطر يكمن في تقمص نماذج اقتصادية تبدو حديثة ولكنها خادعة لأنها بعيدة عن الاستحقاقات الوطنية والقدرات الذاتية من ناحية، وفي عناد من الأبعاد البيئية دون بديل متماسك فكريا وماديا.