متى نتحرك للتصدي لتلوث الهواء؟
أصدرت منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي، قائمة بأكثر مدن العالم تلوثا في الهواء، ومن اللافت للنظر تسجيل مدننا الرئيسة السبع الواردة في التقرير مستويات مرتفعة من التلوث، بل واحتلال ثلاث مدن سعودية (الرياض والجبيل والدمام) مراكز في قائمة العشرين مدينة الأكثر تلوثا للهواء على مستوى العالم. ولم يصدر من أي جهة رسمية حتى الآن أي تعليق أو إيضاح حول التقرير. واستقى التقرير بياناته عن مدن المملكة من مصادر رسمية محلية، ما يشير إلى أن المعلومات الواردة في التقرير صحيحة. ومن الملاحظ تأكيد قاعدة بيانات المنظمة تسجيل دول مجلس التعاون بصفة عامة مستويات مرتفعة في تلوث الهواء.
وتقاس مستويات التلوث بتركزات الجسيمات الملوثة، فكلما ازدادت أوزان هذه الجسيمات بالمايكروجرام "جزء من مليون من الجرام" في المتر المكعب من الهواء ازدادت مستويات التلوث. وتوجد في الهواء جسيمات دقيقة ملوثة يساوي أو يقل قطرها عن 2.5 مايكرون (جزء من مليون من المتر)، وجسيمات خشنة يساوي قطرها 10 مايكرون أو يقل. وتتكون الجسيمات من مواد صلبة معلقة في الهواء على هيئة أدخنة وغبار وأبخرة، وتصنف هذه الجسيمات على أساس حجمها، كما أنها تسبب انخفاض مستويات الرؤية. وتنطلق جسيمات 2.5 مايكرون من انبعاثات أولية أو ثانوية كالأدخنة المنبعثة من السيارات والمصانع ومحطات توليد الطاقة. وتشمل هذه المركبات العضوية المتطايرة، وغازات الكبريت، والنيتروجين المنبعثة من إحراق الوقود، وخصوصا الديزل المنطلق من الشاحنات والحافلات والآلات.
وتدخل الجسيمات الدقيقة إلى أماكن أعمق في أجهزة التنفس، وتنفذ إلى الدم، ما يسبب آثارا وخيمة على الصحة البشرية، ولهذا فهي أخطر من الجسيمات الأكبر حجما. وتنتقل الجسيمات الدقيقة جغرافيا إلى مسافات بعيدة، وتتسبب في الأمطار الحمضية والتلوث بعيدا عن أماكن تكونها، ما يستدعي ضرورة مراقبة تنقل سحب هذه الجسيمات ومراقبة انبعاثاتها في مناطق جغرافية واسعة. وتتسبب الجسيمات الملوثة، وخصوصا الدقيقة منها، في زيادة حدوث الأمراض الفيروسية والجرثومية وأمراض التنفس بشكل عام والحساسيات والربو، وترفع معدلات حدوث الأورام، كما قد تتسبب في الجلطات.
وجاء هواء عاصمتنا الحبيبة الرياض الأكثر تلوثا في المملكة والعالم العربي، كما احتل المركز الرابع عالميا في تركزات جسيمات التلوث الدقيقة والسابع في تركزات جسيمات التلوث الخشنة حسب بيانات المنظمة. وتفوق معدلات تلوث الهواء السنوية في الرياض 15 ضعفا المعدلات الموصوفة بأنها آمنة من قبل منظمة الصحة العالمية، ما يشير إلى ارتفاع إمكانية تعرض سكان الرياض إلى مخاطر تلوث الهواء. ويتسبب تردي نوعية الهواء في أي منطقة في إحداث آثار سلبية على بيئة المنطقة وصحة المقيمين فيها. وتفيد بعض التقارير مثلا إلى ارتفاع حالات الربو لدى الأطفال في المملكة، حيث يعاني طفل من كل ثلاثة في المدارس الربو.
إن بيانات منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس الخطر من تفاقم معضلة تلوث الهواء في مدننا، وتؤكد في الوقت نفسه وصول معدلاته إلى مستويات خطرة لا يمكن السكوت عليها، بل ينبغي، وبشكل عاجل، التحرك لخفض معدلاته وتحسين جودة الهواء. ومن المؤسف جدا ألا تقوم الجهات المعنية بمراقبة جودة الهواء ــــ وخصوصا في المدن الرئيسة ـــ بإصدار بيانات يومية عن مستويات التلوث وتحذير الجمهور عند ارتفاع معدلاته، لتمكينهم من خفض آثاره السلبية على صحتهم وسلامتهم. ويتأثر الأطفال، وكبار السن، والمرضى ـــ بأمراض التنفس والقلب ــــ، والعاملون في الأماكن المكشوفة من آثار التلوث بشكل أكبر من الآخرين. ولهذا فإن هناك واجبا أخلاقيا يحتم ضرورة توفير معلومات بشكل شبه يومي عن مستويات التلوث وأماكن تركزها.
من جهة أخرى، ينبغي زيادة عدد محطات قياس جودة الهواء، وخصوصا في المدن الكبيرة مثل الرياض؛ للتأكد بشكل أدق من صحة بيانات تركز الملوثات، حيث يصعب تصديق أن تلوث هواء الرياض هو أعلى من مستوياته في مدن تغطيها سحب التلوث كالقاهرة وبكين ومدينة المكسيك.
إن اهتماماتنا بقضايا التلوث بشكل عام والهواء بشكل خاص منخفضة، على الرغم من خطورتها على صحة الإنسان والحياة بوجه عام، ولكن هذا ينبغي ألا يمنع المسؤولين من تبني وتفعيل برامج التصدي للتلوث والعمل على خفضه في أسرع وقت. وقد قطعت دول العالم المتقدم مسافات شاسعة في سياسات الحد من التلوث، بل نجح كثير منها في خفض معدلاته الخطرة. فهناك مدن تمنع استهلاك الوقود الصلب كالفحم والحطب عند ارتفاع معدلات التلوث، وهناك مدن أخرى تقنن حركة المركبات عند مستويات حرجة، كما تتعامل بعض المقاطعات مع بعض الملوثات كسموم. ويتطلب خفض مستويات تلوث الهواء بشكل كبير برنامجا طويل الأمد، يفرض معايير صارمة على انبعاثات الغازات الضارة من وسائل النقل والآلات والمصانع والمزارع، والحد من فوضى أنشطة الإنشاءات ومشاريع البنية الأساسية، ورفع جودة الوقود البيئية وزيادة كفاءة استخدامه، وتطوير وسائل النقل العام، ونقل الصناعات الأكثر تلويثا للهواء مثل مصانع الأسمنت والحديد ومحطات الطاقة بعيدا عن التركزات السكانية، ونشر ثقافة التصدي للتلوث في المجتمع، ولكن هذا لا يمنع من اتخاذ بعض الإجراءات العاجلة، مثل التحول بأسرع وقت إلى استخدام الديزل منخفض الكبريت، وإلغاء الفروق بين أسعاره وأسعار البنزين، وإبعاد أماكن حرق المخلفات عن المدن، وتقنين حركة المركبات، وعمل المصانع عند ارتفاع معدلات التلوث.