رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


اقتصاديات السوق .. والثقافة الرعوية

يعد الاقتصاد الريعي نظاما اقتصاديا استثنائيا غير مستدام إذ إنه حال نفاد الثروات الطبيعية أو استغناء الأسواق عنها لسبب أو لآخر يُشل اقتصاد الدولة الريعية لغياب الإنتاج والاستثمار الحقيقيين ولندرة الكوادر البشرية المفكرة المبتكرة وغياب البيئة المحفزة لجهة أنظمتها وهياكلها واكتمال عناصرها.
الاقتصاد الريعي هو الاقتصاد الذي يعتمد على الثروات الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعي، وكل المعادن الطبيعية مثل الحديد والذهب وغيرها، حيث يتم استهلاك عوائد هذه الثروات دون تحويلها أو جزء كبير منها لاستثمارات لإيجاد أصول رأسمالية منتجة للوصول لمرحلة الإنتاج الحقيقي الذي يعمل وفق آليات اقتصاديات السوق القائمة على مبدأ العرض والطلب والمنافسة الحرة داخل السوق وتحرير الأسعار دون أي قيود سوى المخالفات النظامية.
نظريا كل مواطن يطالب الدولة بالتخلص من الاقتصاد الريعي أو الرعوي والتحول لاقتصاديات السوق لتنويع مصادر الدخل وتجاوز مخاطر الاعتماد على النفط كمورد طبيعي ناضب ويتعرض لذبذبات سعرية عالية نتيجة عوامل خارج السيطرة ما يؤثر سلبا في النمو الاقتصادي المستدام الذي تستهدفه بلادنا وكل بلادنا العالم المتقدمة، إلا أنه في الواقع العملي يعارض معظم المواطنين خصوصا من الطبقات المتوسطة وما دونها التعدي على مكاسبهم الرعوية في المجالات كافة (التعليم، العلاج، الإسكان، النظافة، خدمات الكهرباء والماء المدعومة، خدمات البنى التحتية بما في ذلك البنى التحتية للنقل... إلخ.) ويطالبون الدولة بتوفيرها دون اللجوء لقواعد السوق الذي يُشكِل التقاء بين العرض والطّلب للسّلع والخدمات والرساميل.
وبالتالي فنحن أمام شعب لديه رغبة في التحول نحو اقتصاديات السوق لتنويع مصادر الدخل ولديه وعي مضاد لتلك الرغبة نتيجة تكون ثقافته في رحم اقتصاد رعوي أسس لثقافة استهلاكية وثقافة التراخي في التفكير والإنتاج وتحمل المسؤوليات والصعاب والصبر على تحديها لتحقيق المراد من نجاحات ومستويات معيشة عالية، وعلينا أن نعالج هذه الإشكالية بشكل متسارع بالتزامن مع سعينا للتحول المنشود في «رؤية 2030» والتي باتت معظم الأجهزة الحكومية من وزارات وهيئات ومصالح تتمحور حولها وحول سياساتها وقيمها ومبادئها.
لنأخذ مثالا صارخا على هذا التناقض في السوق العقارية وتحديدا في المجال الإسكاني، حيث تسعى وزارة الإسكان في إطار توجهات الدولة وأسس "رؤية 2030" لتفعيل آليات السوق ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي لتمكين الطلب ودعم العرض في سبيل تيسير السكن لجميع فئات المجتمع بالسعر والجودة المناسبين، حيث تعمل الوزارة لجهة التمكين على توفير حزمة من الحلول تتمحور حول التمويل الميسر لمساعدة المواطن على التملك، في حين تعمل لجهة دعم العرض بتوفير حزمة من المحفزات للمطورين تتمحور حول سرعة الحصول على التراخيص وخفض تكاليف الإنتاج وسهولة التسويق. ودون أدنى شك ما طرحه وزير الإسكان في منتدى «سايرك 4» يتوافق تماما مع قواعد اقتصاديات السوق التي تحقق تنويع مصادر الدخل من جهة كما تمكن السوق العقارية بجميع مكوناتها من منتجين ومستهلكين ووسطاء من معالجة المشكلة الإسكانية من جهة أخرى، بل إن الأمر يتعدى معالجة المشكلة الإسكانية إلى ما هو أهم وهو دعم الاقتصاد الكلي وتحسين مؤشرات البطالة وتوليد الوظائف وتدوير السيولة وتنشيط الاقتصاد بشكل عام للخروج من حالة التباطؤ والركود.
ونتيجة للثقافة الرعوية التي تشكلت في العقود الماضية فإن مثل هذه الحلول غير مقنعة ولا تتواءم مع رغبات ثلة من صناع الرأي وكتل كبيرة من أفراد المجتمع رغم مطالبتهم بتنويع مصادر الدخل ورفع كفاءة المال العام حيث ما زالت المطالبات بالتدخل العنيف من قبل الدولة في قواعد السوق ومحاربة فئة المستثمرين لمصلحة فئة المستهلكين بدعوى كسر احتكار السوق العقارية، كما أن المطالبات ما زالت تتركز على ضرورة قيام الدولة بتوفير القروض الميسرة جدا وتوفير الأرض الملائمة ودعم مواد البناء لتنخفض خارج قواعد العرض والطلب، بل إن الأمر وصل بالبعض للتحريض على برامج وزارة الإسكان التي تستهدف تمكين المواطن من شراء المسكن الملائم لدخله وحجم عائلته، حيث تتم دعوة المواطن من خلال وسائل التواصل كافة لعدم التورط في قروض الصندوق العقاري الحكومي، وبالتالي حرمان المواطن من تحويل الإيجارات التي تذهب إلى غير رجعة إلى أقساط تتراكم بمرور الزمن في وعاء المنزل الادخاري ليمتلكه بالكامل خلال متوسط سنوات الانتظار الحالية التي تمتد لأكثر من 20 سنة.
إذن نحن أمام زخم ثقافي قوي قادم من السنوات الرعوية الطويلة يتعارض تماما مع الثقافة المطلوبة للولوج في مرحلة تنويع مصادر الدخل والتحول لاقتصاديات السوق أو الاقتصاد الحقيقي القائم على إنتاج السلع والخدمات بالاستثمار الأمثل لكل الموارد المتاحة وفق قواعد المنافسة الدولية من خلال القطاعات الاقتصادية كافة بنسب عالية في مجموع الإنتاج المحلي، فما الحل؟
اطلعت على تغريدة على حساب هيئة السياحة والآثار في "تويتر" تعكس فكر الأمير سلطان بن سلمان في بناء إعلام متخصص في مجالات السياحة يدعم جهود الهيئة في تهيئة المجتمع السعودي لتبني أهداف التنمية السياحية وإدراك أهميتها في دعم الاقتصاد الوطني عوضا عن الإعلام السياحي القائم قبل تأسيس الهيئة الذي يعمل دون رؤى أو استراتيجيات مؤسسية مدونة تحدد منطلقاته وأهدافه، ويبدو لي أن المطبوعة التي نشرت مرافقة للتغريدة يمكن أن تكون نموذج قدوة لبناء إعلام اقتصادي تنموي متخصص لتهيئة المجتمع السعودي لتقبل التوجهات الجديدة للتحول نحو الاقتصاد متنوع المصادر في إطار قواعد السوق العالمية القائمة على التنافسية على مستوى الدول والمنشآت والأفراد، ويمكن لنا الاستفادة من هذه التجربة المحلية المميزة.
ختاما أتطلع إلى أن تعمل وزارة الاقتصاد والتخطيط على بناء إعلام اقتصادي تنموي نشط يسير جنبا إلى جنب مع الجهود التخطيطية والتنفيذية ليشكل مدخلا فعالا لإعادة تشكيل الرأي العام ليكون بيئة حاضنة متقبلة بفاعلية بدل أن يلعب دورا مقاوما لما يرغب فيه من تنمية واقتصاد حقيقي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي