حوادث المعلمات .. فزع مستمر
أصبح من الأمور الاعتيادية أن تسمع عن حادثة مرورية راح ضحيتها عدد من المعلمات الشابات وهن في طريقهن إلى مقار عملهن في إحدى القرى النائية أو الهجر البعيدة، ثم ننسى ما حدث حتى نفاجأ بعد زمن قصير بحادثة أخرى، تفرغ وفيات وإصابات بالغة. وهكذا يسير الحال ببناتنا وفلذات أكبادنا وهن يؤدين واجباتهن كجزء من المواطَنة الصالحة وكسب المعيشة. فهل بالإمكان أفضل مما كان؟ هذا ما نتمنى من المرور وإدارات التعليم الإجابة عنه. فالوضع الحالي فيه كثير من عدم المبالاة وقليل من أخذ العبر.. مركبات نقل متهالكة، وطرق معظمها تحت المستوى المقبول، ودوام يبدأ قبيل صلاة الفجر، وسائق قد لا يكون أخذ قسطا وافرا من النوم قبل الرحلة اليومية المبكرة، وغياب تام لربط أحزمة المقاعد. هذا إذا كان في المركبة مقاعد، وليست فقط مساحة جلسة، وعدم إمكانية تحديد السرعة من قِبَل مسؤولي المرور، وأخيرا، هل هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع توصيل التعليم بها؟ تساؤلات كثيرة لا نملك الإجابة عنها.
فقبل أيام قليلة، صُدِمنا بآخر خبر حادث مروري في منطقة القصيم، راح ضحيته أربع معلمات مع سائقهن وأصيب في الحادث نفسه ثلاث زميلات قد تكون إصابتهن خطيرة ومقعِدة لا قدر الله. فحري بنا أن نسميها مجزرة مرورية وليس حادثا عابرا. وتصوروا عمق الأسى عند المعلمات الثلاث اللاتي شاهدن بأعينهن موت رفيقاتهن. واسمحوا لي أن أستعرض معكم الخيال الذي جاء على بالي بعد سماع الخبر المؤلم. إحدى المتوفيات أم لطفل لا يزال في سن الرضاعة. وقبل أن تغادر المنزل، فجر ذلك اليوم المحتوم، أيقظته كعادتها من النوم وضمته إلى صدرها، تقبل خدوده الطرية وتذرف على جبينه دموع الوداع حتى تعود إليه بعد ساعات طويلة كأنها الدهر. ثم تلقم فمه ثديها ليكرع منه ما يستطيع، بينما هو يصارع النوم. تسمي عليه وتتركه في حفظ الله الذي لا تضيع ودائعه. ويقدر الله، لحكمة هو أعلم بها منا، أن تغيب عنه إلى الأبد. يفقدها ويتحسس مكانها ويبحث عن صدرها الدافئ، فلا يجد إلا ما يسر الله له من عطف جدة أو خالة.
ومعلمة أخرى، ربما تكون هي العائل الوحيد لأبويها وإخوانها وأخواتها. جلست سنوات طويلة تنتظر الوظيفة حتى ولو كانت تبعد عن مسكنها مئات الكيلومترات. لم يكن لديها كثير من الاختيارات. فهي مضطرة لقبول الوظيفة رغم صعوبتها من أجل كسب المال الحلال لعائلتها. وتصوروا صدمة أمها وأبيها وبقية أفراد عائلتها عندما انفجرت وسط دارهم قنبلة خبر وفاتها. "إنا لله وإنا إليه راجعون". هكذا كان المطلوب من الأب والأم، رضا بقدر الله. والله نسأل أن يجبر مصابهم. طارت أحلامهم وفرحتهم وآمالهم في أن تحصل ابنتهم على وظيفة قريبة من المنزل ولو بعد سنوات. انتهى كل شيء بالنسبة لهم، إلا من رحمة العزيز الجبار. أما المعلمة الثالثة، فقد تكون زوجة جديدة لم يمض على زواجها إلا زمن قصير. كانت لها أحلام كبيرة وتوق شديد لرؤية زوجها الشاب آخر كل يوم بعد وصولها من السفر اليومي الطويل. فيسمع بخبر وفاتها وتضيق عليه الدنيا بما رحبت. يبكيها كما يبكي الطفل طلبا لأمه. نعم، إنه الحب الذي أوجده الله بين الزوجين والعاطفة التي تحكم تصرفاتنا. تذكر أيامها الحلوة الجميلة وما كانوا معا يعدان للمستقبل. فلا يملك اليوم إلا الدعاء لها بالرحمة والمغفرة وأن يجبر مصيبته ومصيبة والديها. والمعلمة الرابعة، عليهن جميعا رحمة الله، أم لبضعة أولاد، فتيات وأبناء. لا يزالون في سن الطفولة. ترنو نفوسهم إلى رؤيتها عندما تعود من العمل وبعد مشقة السفر، على الرغم من أن وجودها بينهم خلال أيام العمل الخمسة لا يتعدى سويعات قبل النوم. وفي نهاية الأسبوع قد يكون لديها من الوقت ما يسمح لها بمراجعة دروسهم ومساعدتهم. وكانوا راضين بما يسر الله لهم، لأنهم يعلمون أن غيابها اليومي الطويل هو من باب البحث عن الرزق الذي مآله لهم. جاءهم خبر الحادث ووفاة حبيبتهم كالصاعقة، وهم بين صدق وبين خيَال، أو لعله حلم ثقيل يزول أثره بمجرد الاستيقاظ من النوم. فيجدون أنه حقيقة. كم يا تُرى من الأيام والسنين يحتاجون حتى يغيب هول الفاجعة عن مخيلتهم؟ ما أصعبكِ يا دنيا وكم أنتَ رحيم يا الله. وقد يكون السائق زوجا وأبا لأسرة كبيرة تعيش على عمله وكده.
فيا إدارة المرور ومسؤولي التعليم، هل خلت عقولكم الكبيرة من حل لهذه المعضلة الإنسانية المتكررة؟ لا أخال ذلك. وهل هو عدم الشعور بالمسؤولية والتهرب منها ومن متطلباتها؟ وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو، هل من الممكن أن نستغني عن عملية النقل اليومي، إما بوجود سكن أو توفير نقل جماعي على حساب الدولة تتوافر فيه عوامل السلامة؟ أليس من الممكن إيجاد نوع من التنسيق بين الطرفين، حيث يكون لدى المرور قائمة بالمعلمات ومكان عملهن وطرق ووسائل المواصلات المتوافرة لهن؟ فيقوم المرور بفحص المركبات ومراقبة سيرها على الطرق الفرعية والتأكد خصوصا من ربط الأحزمة ويعاقب السائق إذا لم يتأكد من ذلك بنفسه. فقد أثبتت التجارب والبحوث أهمية ربط الحزام وأنه يقلل -بإذن الله- من حدة الإصابات بنسبة كبيرة. وغالبا ما يكون معدل ما تستغرقه الرحلة ذهابا وإيابا لا يقل عن ثلاث ساعات. فهل هذه المدة محسوبة من ساعات الدوام الرسمي، أم أنها إضافة إليه، وهو إجحاف بحقهن.
وخلاصة الحديث إن الموضوع بحاجة إلى مراجعة من قبل المرور والتعليم والبحث عن حلول تقلل من فرص الحوادث المرورية القاتلة. والتوفيق بيد الله.