رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


فراغ الواقع

بعد وصول الدفعة الأولى من المهاجرين العراقيين عام 1990 إلى الولايات المتحدة من طوائف دينية مختلفة، ومذاهب مشاربها متباعدة، ومن ديانات بعضها لم يسمع العالم عنه قبل التطورات الأخيرة في العراق كالإزييدين، ما كنا نعلم أن أتباع يحيى بن زكريا ـــ عليه السلام ــــ الصابئة لا تزال تعيش على ضفاف نهر الفرات، متمسكة بعقيدتها، وعاداتها، وتقاليدها القديمة، وأحكام الحياة والموت، وكان العدد الأكبر منهم من نصارى العراق والمسلمين شيعتهم وسنتهم!
لاحظ الجميع أن ـــ الصراع ــــ على الماضي والجدل على وقائعه، والحكم على أهله وأصحابه، قد انتهى تماما في زمن قصير جدا، ودون أي توجيه أو وعظ ديني عن (قيم التعايش) والقدرة على محبة الناس رغم اختلافاتهم العقدية والدينية والمذهبية!
وبعد سنتين فقط من الإقامة في الولايات المتحدة، عد هذه الفئة من المهاجرين تحولت جدل التاريخ، وكراهية الآخرين، بسببها سلوك عقلي يقترب من تصنيف المرض النفسي، والخلل العقلي، والجهل الساذج، وبلغ حد الاشمئزاز والنفور الشديد من الحديث عنه، أو العودة إليه، أو جعله محورا يترتب عليه أي نتائج عملية وواقعية!
ما يسمى مراكز "الحوار الوطني" أو الحوار بين الأديان، أو مشاريع "التقريب بين المذاهب الإسلامية" والديانات السماوية .. هذه المسميات جميعها لم تكن طرفا، أو تسهم في النتيجة التي تحققت .. واقع التقبل والتسامح والقدرة على المحبة عاد ليتكرر مع اللاجئين السوريين .. الآن.
لا توجد مفاجأة في عودة الناس إلى ضميرهم، وفطرتهم، وسلامة قلوبهم وأنفسهم .. مع الخطوات الأولى من الوصول إلى بيئة ـــ الأعمال ــــ والبيئة المنتجة ــــ فقيمة كل إنسان تتحدد وفقا لما ينتج، وقيمته ترتفع بمقدار عمله ونوعه وأهميته أما "العقائد" و"العبادات" وعلاقته مع الله .. فهذه في مجملها وكلها تخصه هو وحده، وليس للمجتمع منها نصيب ولا تهمه!
قانون المصلحة، أو قانون الإنتاج، وقانون الواقعية المجردة، جعلتهم جميعا أمام "واقع" هم جزء منه، وهم مستقبله، وهم "جميعا" شركاء فيه، بوصفهم "مواطنين". لا بوصفهم طوائف، أو أتباع ديانات. الطائفة والدين مسألة شخصية ـــ تتسع لها ـــ حرية الاعتقاد ــــ وحرية العقيدة.. التي هي جزء أساس من ميثاق حقوق الإنسان للأمم المتحدة. والتي انتهت إليه بعد عشرات الملايين من ضحايا الحروب الدينية المروعة التي وثق جرائمها الشرسة تحت عنوان عريض اسمه "الحروب الصليبية". وبعد سلسلة طويلة من استباحة دم الإنسان لأخيه الإنسان إن لم يتفق معه في العقيدة الدينية، وفي طريقة عبادة الله، أو طريقة الوصول إليه.
مجتمعات الإنتاج تحتفي بالحاضر، وبالإنسان المنتج، وبالإنسان الذي يسهم في تقديم حياة أفضل لمن حوله، ولا يهمها كثيرا من كان أفضل من من! من قبل ألف عام .. أو أكثر من هذا أو أقل .. ورغم أن هذه قاعدة قرآنية ثابتة "تلك أمة قد خلتۖ لها ما كسبت ولكم ما كسبتمۖ ولا تسألون عما كانوا يعملون" (134) البقرة. وثمة تأكيد على أننا لن نسأل عن أعمالهم ولا عن صلاحهم من عدمه "تلك أمة قد خلتۖ لها ما كسبت ولكم ما كسبتمۖ ولا تسألون عما كانوا يعملون" (141) البقرة.
في الواقع عاشت هذه الفئة من الناس في مجتمعاتهم، مغيبة عن واقعها، قليلة الوسيلة والحيلة في الإنتاج أو في صناعة المستقبل، ومعايير الفضيلة فيها هي الكلام لذا تعلي من شأن الخطباء وتزيد منهم، وتوظفهم بكميات كثيرة .. أكثر من تقدير العامل والمصلح والمنتج .. فكانت صراعات التاريخ، والعيش في الماضي، هما سبيل الخلاص الوحيد من حاضر هم غائبون عنه، أو هم مغيبون عنه طيلة الوقت، من الولادة حتى الوفاة، إن كلمة السر هي في فراغ الواقع المعيش.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي