رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عوامل الهدم الداخلي

إنها هدية ثمينة تلك التي تلقيتها من السفير الدكتور محمد بن عبد الرحمن البشر، وهي كتابه القيم "مآسي الأندلس"، ومع أن العنوان والمحتوى يثيران الحزن والأسى على فقدان العرب فردوسهم الجميل الذي بناه صناديدهم، وذوو العزم والشجاعة إلا أن التحليل، والوقفات الدقيقة التي عرضها المؤلف في تسلسل زمني، وربط فكري، وتأمل موضوعي اجتهد فيه ليغوص إلى أس المشكلة المزمنة التي تعانيها أمتنا، ليس في حاضرها فقط، بل في ماضيها.
في مقدمة الكتاب استخدم المؤلف عبارة عوامل الهدم الداخلي التي تختزل جوهر مأساة الأمة، حيث تتمثل هذه العوامل في النزاعات البينية بين حكام الأقاليم، أو الدويلات، بعدما دب الخلاف، والفرقة بينهم، حتى بلغ بالبعض منهم الاستعانة بالنصارى على إخوانهم في العقيدة والعرق، وما ذلك إلا لتقدم النزوات والمصالح الفردية الضيقة على مصلحة الأمة، وهذا ما استغله الأعداء المتربصون، حيث وجدوا ضالتهم في هذه الحالة من التفكك، والخلافات، والتباعد النفسي ليضعف الفردوس، ويسقط في نهاية الأمر، ويضيع بعد قرون من الازدهار، والتطور الذي أنار أوروبا، وأشعل فيها مصابيح العلم والمعرفة التي تتمتع بها حتى الآن.
لست هنا بصدد سرد ما في الكتاب وهو الغني بالمشاهد المحزنة التي قادت إلى ضياع الجميع، وتفريطهم في ما عمره وبناه الفاتحون لذلك الجزء من العالم، وما يهمني هو تحليل عوامل الهدم الداخلي الذي أصاب الأندلس وأصاب قبلها الدولة الأموية، والعباسية، والعثمانية، ولا يزال يضرب أطنابه في ربوع الأمة، أين ما اتجهنا نجد آثاره المدمرة جلية. الانغماس في الشهوات من نساء ومجون كانت السمة البارزة المتكررة طوال فترة الانحدار، حيث تولى الحكم أفراد كل همهم إشباع رغباتهم، حتى أصبح الأمر يؤول إلى الموالي، والخدم ما أضعف أركان الدولة، وزاد من مطامع الآخرين فيها، ومع الاستثناءات التي تظهر بين فينة وأخرى ببروز قادة صالحين تستعيد دولة الإسلام الأندلسية عافيتها إلا أنها لا تلبث أن تنتكس حينما يتولى الأمر غير المؤهلين لا في استقامتهم، وأخلاقهم، ولا في الحكمة والقدرة على الإدارة السليمة.
التنازع في ظني هو نتيجة وعرض لمرض يكمن في العقول، والأنفس، هذا المرض يتمثل في الأنانية، والتمركز حول الذات، حتى يكون الفرد حبيس ذاته، ومصالحها المغلقة المرتبطة بشهواته، وامتيازاته التي يرى عدم أحقية مشاركة الآخرين له فيها، ومع أن الله أكد حقيقة بشرية تتمثل في الميل إلى الملذات، والشهوات، وحب التملك، إلا أن التمركز حول الذات يفقد المرء الميزان الطبيعي، (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام)، ومع هذه الحقيقة إلا أن الدعوة للاعتدال جاءت في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) وقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)، وهذا ما حدث لأمراء الأندلس الذين أسرفوا فيما يحل، ويحرم، حتى فقدوا كل شيء، بما في ذلك حريتهم حين أصبحوا سلعة تباع وتشترى.
حالة الانغماس في الشهوات، والأنانية، والابتعاد عن التوجيهات الربانية التي نهت عن موالاة أعداء الدين مثلت وتمثل أساسا نفسيا لحالة من الضياع في التفكير حتى تنقلب الأولويات وتصبح السفاهات مقدمة على الأمور الجوهرية، ومع هذا الانقلاب تكون القرارات السقيمة المفتقدة للرؤية الصائبة. وأنا أقرأ الكتاب بما يعرضه من أحداث التاريخ المؤلمة التي مضى عليها قرون يتراءى لي مشهد الحاضر، حيث تشتعل النيران في ربوع أمتنا، والمتأمل في أسبابها يجد أنها لا تختلف عن السابق، فالمصالح الفردية المحضة قادت بشار إلى الاستعانة بكل شذاذ الأرض لقتل شعبه، وتدمير وطنه، وكذا الحال مع الحوثي، وصالح اللذين استعانا بإيران على شعبهم ووطنهم، وما ذلك إلا لغياب التفكير الناضج والسليم لسطوة شهوة السلطة، والمال، وما يترتب عليها من نزوات بهيمية.
السؤال المحير لماذا لا يأخذ الناس العبرة من تاريخ الأمم التي سبقتهم، وهم يرون سقوط الأمم، ودمار الأوطان مع التحذير الإلهي، والدعوة إلى الاعتبار، وعدم الركون للأعداء، والتحذير من الإفراط في الشهوات، والملذات لما لها من تأثير في سلامة التفكير والإدراك. قراءة كتاب "مآسي الأندلس" تضعنا أمام صورة متكررة عبر تاريخ أمتنا تتجسد فيها عوامل الهدم الذاتي متمثلة في الشهوات، والنزاعات والاستعانة بالعدو على الأخ، وافتقاد النضج، وسوء القراءة للأحداث على حقيقتها، مع رداءة استشعار المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي