المزيد من النزاهة والشفافية

تتوافر رغبة صادقة على مختلف الأصعدة في المملكة للتصدي للفساد، حيث يدرك الجميع أن الفساد من أعظم عوامل التخلف، ومعوقات التنمية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، والمتسبب الأول في الفقر والبطالة والجريمة وحالة عدم الاستقرار التي تشهدها منطقتنا. ويأتي على قائمة مظاهر الفساد الرشوة والمحسوبية، واستغلال الصلاحيات والمراكز الوظيفية من أجل تكديس الثروة والاستحواذ على الامتيازات ونشر الأفكار الهدامة. وتحتل المملكة مركزا لا بأس به في مؤشرات النزاهة العالمية، حيث جاءت ـــ حسب تقرير الشفافية العالمية لعام 2015م ـــ في المرتبة 48 بين دول العالم المصنفة البالغة 168 دولة. وجاءت المملكة في المرتبة الرابعة عربيا والثالثة خليجيا في مستويات النزاهة بعد قطر والإمارات اللتين احتلتا المرتبتين 22، 23 على التوالي. وعلى الرغم من معاناة مؤشرات النزاهة العالمية بشكل عام عديدا من أوجه القصور، كعدم مراعاتها الظروف والقيم الخاصة لشعوب العالم، وكذلك تبنيها المعايير الغربية في تعريف وتحديد وقياس الفساد، إلا أنها تعطي انطباعا عاما وتقريبيا لمستويات الفساد. فالدول التي تقف على رأس ترتيب العالم في النزاهة والشفافية دول متطورة ومستقرة وغنية، بينما الدول التي يتدنى ترتيبها تعاني انخفاضا كبيرا في مستويات المعيشة وقلاقل وفقرا وسوء توزيع الثروة.
تضمنت رؤية المملكة لعام 2030 التزاما بالتصدي للفساد بكل مستوياته الإدارية والمالية، كما تضمنت النية في الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية لتحقيق أعلى مستويات الشفافية والحوكمة في جميع القطاعات. وحبذا لو تضمنت الرؤية في أحد أهدافها تحسين ترتيب المملكة في مؤشرات النزاهة العالمية، ولو بعشر مراتب، لأن هذا يعطي مؤشرا على وجود برنامج عملي لاستهداف الفساد وبناء منظومة النزاهة وتدعيمها. وقد تعجز المؤشرات العالمية للنزاهة عن القياس الحقيقي لبعض مظاهر الفساد كالمحسوبية الخفية أو الواسطة أو الجهوية التي تنتشر في مجتمعات الدول النامية. ويشتكي عديد من الناس في المملكة من حيلولة الواسطة والجهوية دون التوظيف أو الحصول على بعض الامتيازات. ويعتقد كثيرون أن الحصول على وظيفة أو منصب جيد أو ترقية في القطاعات الخاصة والعامة يعتمد على العلاقات أو الواسطة أو الجهوية في بعض المؤسسات العامة والخاصة، بل يشتكي البعض من تمتع جنسيات معينة بنفوذ كبير في بعض القطاعات والشركات، ما يخفض من توظيف المواطنين في هذه الجهات، ما يفسر جزءا من ارتفاع معدلات البطالة الوطنية.
وتركز مؤشرات الفساد العالمية على القطاع الحكومي، لكن القطاع الخاص في مختلف دول العالم لا يخلو من الفساد أيضا. وتزخر الاقتصادات العالمية بقضايا فساد القطاع الخاص التي تظهر جلية في الأسواق المالية، والاستغلال الواضح من قبل رؤساء ومجالس إدارات الشركات لنفوذهم في الاستحواذ على العقود والحوافز والمكافآت والمرتبات العالية. كما تظهر قضايا الفساد في احتيال المؤسسات الخاصة على المستهلكين والعملاء والمستثمرين والتلاعب بالأسواق المالية. ولهذا فإن خصخصة القطاعات الحكومية لا تعني بالضرورة التخلص من الفساد، فقد يستمر الفساد أو يزيد في الشركات الحكومية المخصخصة، بسبب تركز الصلاحيات في عدد محدود من المديرين والملاك والمساهمين واستغلالهم هذا النفوذ في الشركات المخصخصة. ويشير تاريخ الخصخصة لبعض الشركات الحكومية في المملكة إلى ارتفاع حاد في مخصصات كثير من الكوادر الإدارية العليا لهذه الشركات وارتفاع تكاليف الإنتاج في هذه الشركات. ولهذا ينبغي تبني الإجراءات المانعة لسوء استغلال الصلاحيات في الشركات المخصخصة التي ستتزايد خلال الـ 15 عاما المقبلة، وألا تتحول هذه الشركات إلى أدوات لتوظيف الأقارب وتضخيم رواتب ومخصصات ومكافآت كبار التنفيذيين.
قد تنخفض النزاهة والشفافية في قطاع مهم ألا وهو قطاع المعلومات والبيانات المالية والاقتصادية، حيث يحاول بعض مصدري البيانات والمعلومات الخاصين والعامين إيراد البيانات والمعلومات الإيجابية أو تضخيمها، وإخفاء المعلومات السلبية أو تقليصها. ويصدر عديد من الشركات المساهمة وغيرها بيانات مالية غير دقيقة لتجنب دفع الاستحقاقات الخاصة والعامة والتغرير بالأسواق والمساهمين والعملاء. كما قد تقوم الإدارات والشركات الحكومية بإصدار بيانات مبالغ فيها عن النمو أو التوظيف أو الأرباح، من جهة أخرى قد تحاول هذه الإدارات والشركات إخفاء تفاصيل الإنفاق المالي أو خفض مستويات العجز وتضخيم الأرباح والفوائض المالية. وتساور العديد من الناس والمراقبين شكوك حول بيانات معدلات التضخم في المملكة وإخفاء تفاصيلها. وتم أخيرا خفض معدلات زيادة تكاليف المياه بشكل مفضوح في بيانات تكاليف المعيشة، ثم تم إخفاء تفاصيل تغيرات بنود المياه وبنود المجموعات الأخرى بشكل مفاجئ بعد عدة أسابيع من نشرها. وكانت تتوافر في نشرات وبيانات التضخم تفاصيل عن تغيرات بنود تكاليف المعيشة وأوزانها النسبية، لكن تم إخفاء التفاصيل منذ عدة سنوات، من جهة أخرى خفض معدل التضخم في عام 2008 من نحو 10 في المائة إلى نحو 6.1 في المائة بعد عدة سنوات ـــ بدعوى تغيير سنة الأساس ـــ ما يثير الريبة في نزاهة هذه البيانات.
إن الوصول إلى أهداف رؤية المملكة لعام 2030 يتطلب كثيرا من الجهد والعمل الشاق والإصلاحات. ويعتبر خفض مستويات الفساد أو زيادة مستويات النزاهة والشفافية من أهم الأدوات التي ستساعد على الوصول إلى أهداف الرؤية، حيث ستساعد زيادة النزاهة والشفافية في المعلومات القطاعين الخاص والعام في زيادة معدلات النمو الاقتصادي، كما سترفع من معدلات التوظيف والإنتاجية وتنافسية القطاعات والمؤسسات الاقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي