T+2 ترفع من مستوى المخاطر وتحمي السوق
يبدو العنوان متناقضا فكيف يمكن لشيء أن يرفع من المخاطر وفي الوقت نفسه يكون معززا للحماية، لقد عانى الاقتصاد السعودي، خاصة مع ارتفاع أسعار العقار، ضيقا في الأفق الاستثماري، فالعوائد على العقار أصبحت قريبة من تكلفة رأس المال بل في بعض الأحيان تتفوق تكلفة رأس المال على العوائد خاصة في ظل القروض العقارية، وفي السوق المالية وعلى الرغم من وجود عدد لا بأس به من الشركات التي توزع عوائد مجزية على سعر السهم الاسمي إلا أن تذبذب الأسعار الحاد للأسهم وتفوق المضاربة على الاستثمار جعلا العملية الاستثمارية محفوفة بمخاطر الخسائر الرأسمالية طويلة الأجل، حتى شركات الطرح الأولي كانت تفقد زخمها مع أول يوم في التداول، والودائع المصرفية غير محفزة وأيضا المصرفية الإسلامية لم تقدم ما يشفع للاستثمار، كل هذه القضية المتشابكة جعلت من توجه المجتمع للاستهلاك أكثر من الادخار وهذا في مجمله جعل السوق المالية بعيدة عن الجاذبية الاستثمارية بشكل عام.
لكن هيئة السوق المالية وتجاوبا مع كل الزخم الذي أطلقته رؤية المملكة لعام 2030، تقدم نفسها من جديد وهي تتحرر من مفاهيم لم تكن تتناسب مع الفكر الاستثماري في المملكة، فقد عدلت السوق المالية من نظام التسوية للصفقات وشرط التوافر المسبق للنقد لتنفيذ عمليات الشراء وهو ما يسمى T+0 أي لا يوجد أي وقت بين تحول النقد وتحويل الأسهم بين المحافظ الاستثمارية، وهذا الإجراء رغم أنه يبدو نجاحا تقنيا كبيرا وطالما فاخرت به السوق غيرها من الأسواق الإقليمية والعالمية لكنني شخصيا قد انتقدته كثيرا وأن هذا الإجراء هو السبب الأساس في تحول السوق إلى المضاربة، حيث يمكن لأي سهم وبلا سبب واضح أن يصل إلى النسبة القصوى، كما أن الشركات صغيرة الوزن في المؤشر لها ثقل كبير في المضاربات نظرا لإمكانية السيطرة السريعة على السوق والتداولات، إضافة إلى كل هذا فإن القرار في تغير المراكز يبدو صعبا للغاية في ظل مقاصة T+0، حيث يصعب التنبؤ باتجاهات السوق وحركة المستثمرين نظرا لصعوبة تتبع السوق وتقييم القرارات. لهذا فإنني أعتبر أن تعديل نظام التسويات في السوق، حيث يتم تطبيق مقاصة T+2 أي يتم تنفيذ التحويلات بين المحافظ بعد يومين من قبول الصفقة، هو قرار منصف إلى حد بعيد بل هو قرار استعادة الهيبة التنظيمية للسوق، ولسوف تكون آثاره بعيدة المدى بل إن السوق في ظل هذا التوجه مرشحة لصعود حقيقي، خاصة أن المضاربات السيئة ستتقلص إلى حد بعيد، والسبب في تقلص المضاربات السيئة هو ارتفاع المخاطر في السوق مع نظام التسوية T+2.
أعود لما بدأت به المقال، حيث يبدو الحديث متناقضا فكيف أن النظام الجديد سيرفع من المخاطر وفي الوقت نفسه هو نظام جيد ومناسب للسوق السعودية. لكن لا تناقض في الموضوع، فالذي شجع كثيرا من المضاربين على دخول السوق والقيام بكثير من القرارات غير المدروسة استثماريا كان سببه نظام T+0، فالقرارات بالشراء والبيع أصبحت قرارات آنية، غير مدروسة وهي مجرد تتبع لحالة السوق وحجم التداولات اليومية، وشراء السهم وبيعه في الوقت نفسه أكثر من مرة حتى لو كانت الشركة ستعلن في نهاية اليوم خسائر أو تغيرات في مجلس الإدارة، فكل ذلك لم يعد له أثر في السوق بل هو حالة البيع السريعة هي المحك. لكن الآن مع التحول للنظام الجديد فإن من يشتري سهما فإنه لن يتملكه تمام التملك المؤهل للتصرف فيه إلا بعد يومين من شرائه وهذا معناه مخاطر بقاء السهم يومين في المحفظة، لهذا فإن من سيشتري سهما سيقوم جبرا بدراسة اتجاهاته السعرية وتحليل وضع الشركة وإخبارها قبل الشراء فقد يتورط في شراء سهم ستعلن الشركة خسائر وعند تملكه تماما في المحفظة يكون السهم قد غير مركزه السعري إلى دون سعر الشراء. لهذا فإن ارتفاع مخاطر المضاربة غير المدروسة سيعيد هيبة السوق المالية ككل وهيبة التحليل الأساسي والتحليل الفني الصحيح المرتكز على قواعده المرعية.
التعديلات الأخرى لكن تكون أقل أهمية من نظام المقاصة، فالسوق المالية ستضيف إلى مجموعتها الكبيرة من الشركة شركة أرامكو العملاقة، وأتوقع شخصيا أن دخول "أرامكو" سيحرك كل الماء الراكد في السوق، وسيعلو كعب الاستثمار إلى حد بعيد، ومع دخول الصناديق والمؤسسات المالية الأجنبية في الاستثمار في السوق، فإن هيئة السوق المالية وبكل تنفض عن جبينها غبار السنوات الماضية وتحلق بالاستثمار عالية، وكل هذا سينعكس على طريق حياة المجتمع ورغبته في الاستثمار وتقليل الاستهلاك المفرط والاتجاه للادخار من أجل العودة للاستثمار في السوق، سيكون للصناديق الاستثمارية الكعب العالي في جذب الأموال وشخصيا أتوقع مرحلة جديدة تشبه حقبة ما بعد إدراج شركة الاتصالات في السوق السعودية.