إصلاح ما أفسدته الريعية
التجربة السعودية اقتصاديا فذة من عدة نواح ولذلك من الصعوبة على بيوت الخبرة اختزال التجربة المجتمعية في قوالب إدارية يمكن تحويلها إلى سياسات تتعامل مع مسائل التنمية والتحديات الاقتصادية في آن واحد أو بالجرعة المناسبة. التجربة فذة لأن المملكة من الحجم و الأهمية كي تكون اقتصادا "حقيقيا" فهي ليست دولة صغيرة بحيث تعيش على دخل "مالي" من عوائد استثمارية ولكنها ليست بالحجم والتجربة الحضارية في أن تتعلم من تجربتها مثل تركيا. المملكة في حالة وسطية اضطرتها بسبب دخل نفط غير عادي إلى "التوسع" الاقتصادي لكن دون نمو عضوي ذاتي قابل للاستدامة أو ذي مرجعية مؤسساتية تمكنها من المراجعة. إحدى نتائج التوسع القاتلة كانت الاستعانة بإعداد كبيرة من الوافدين واستعداد الحكومة لتوظيف أكبر عدد ممكن دون حسابات اقتصادية. لم تكن هذه إشكالية حتى وصل عدد السكان وارتفاع تكاليف إدارة "الدولة" إلى حجم غير قابل للاستمرار دون إصلاحات جذرية، ولكن الريعية أفسدت القدرة على التعامل مع كل التحديات وخاصة توليد نخبة كفؤة.
الغائب الحاضر في إدارة الاقتصاد هو منظومة الحوافز. في ظل البيئة الاقتصادية "المالية النزعة" اليوم لدينا حين تذكر الحوافز يبدأ التفكير الريعي في العمل: أين نصيبي من المال العام وكأن المال العام حق مكتسب يوظف من آن إلى آخر لتحفيز المنتج وغير المنتج، وكانت الإنتاجية عاملا ثانويا. الإنتاجية هي معدل سرعة ماكينة النمو، دونها لن يكون هناك حراك اقتصادي. منظومة الحوافز تعني استغلال مجال الفرص المتاحة والممكنة في المجتمع وإمكانية الكسب والخسارة في ظل قوانين تضبط اللعبة. الكسب هو العائد على جميع الأعمال التجارية والاختلافات النسبية بينهما حسب مستوى التقنية والعلم ومستوى درجة التقدم الاقتصادي والمنافسة. الخسارة تقوم بدور مهم لفرز الكفاءات والميزة النسبية والمساعدة على إدارة الموارد إنتاجيا. هذه نظرة رأسية لإدارة الاقتصاد، بينما تغلب لدينا نظرة أفقية تتسم بالأهداف العامة.
الإشكالية الفكرية أن النظرة والأولويات الاقتصادية غالبا ما تكون أفقية "من أعلى إلى أسفل" بعيدة عن الوقوف على أرض الواقع ومحاولة فهم تصرفات الناس والشركات العامة والخاصة وهذا يتطلب أن يبدأ الحراك من أسفل إلى أعلى. تكوين رأس المال المادي والمعرفي تراكمي "المال السهل الذي مصدره ريعي توزيعي ليس تراكميا"، ولذلك لا بد أن يبدأ من أول السلم وينمو تراكميا. العودة إلى جذور أصول الأشياء ليس سهلا فكريا أو معنويا، ولذلك هناك صعوبات لا بد من حلها بالتغيير من سياسة توزيعية إلى سياسة إنتاجية. مجمل تصرفات الناس وحتى الكثير من الشركات قد تخدم بعضهم فرديا ومصلحيا، ولكن لا تخدم المصلحة العامة لأن المستدام جمعي، ولأن التكوين المؤثر جمعي ولأن الرسائل العامة والخاصة التي تصل الناس تكون تعاونية حين تكون الجهود جمعية والكفاءة لها عائد مجز.
الحلول الكونية العليا مطلوبة ولكنها لا تكفي لأن التنفيذ على الواقع الأفقي. الفرد والشركة يتحركان نحو الكسب حسب ما يسمح ويشجعهما النظام المؤسساتي في كل بلد. بالتزامن مع الشروع في الحلول والمقترحات المؤسساتية علينا إعادة النظر في أنماط تصرفات الناس وسبل تحفيزهم. ما يحرك الناس هو الحوافز حسب قدراتهم ومواهبهم وتعليمهم والفرص المتاحة لهم.