الاحتباس الحراري .. احتباس أخلاقي
"التغيير المناخي، هو الشيء الحقيقي الذي يعيش معنا يوميا"
بيل ماك كيبين - ناشط بيئي أمريكي
كل الحكومات تصرخ، تحذيرا من الاحتباس الحراري وتغير المناخ. لكن الكارثة لا تحل بالصراخ، كما أي مشكلة أخرى. لا يمكن وضع كل الحكومات في كفة واحدة حيال هذا الأمر، وإلا سيكون هناك ظلم. لكن لا يمكن أيضا وضع الأفضل من هذه الحكومات في الكفة المقابلة، لأنها ببساطة لا تستحق الموقع. لماذا؟ لأن مساهماتها وتحركاتها تجاه الحد من الاحتباس الحراري والسيطرة على التغير المناخي، تبقى دون المستوى المطلوب. ويبدو واضحا، أن بعض الحكومات حسبت الخسائر الآنية للتحرك، دون أن تهتم بالخسائر الفادحة الآتية من التقاعس في العلاج. إن حراكها يشبه إلى حد بعيد مريضا بالسرطان يداوي نفسه بالأسبرين فقط! إنها مأساة إنسانية تتعاظم. وهذا ليس تهويلا. بل اسألوا العلماء المحايدين الذين لا يهمهم سوى أمان الكوكب، لا تكاليف العلاج.
الدراسات التي تصدر عن مصائب الاحتباس الحراري وتغير المناخ تكاد تكون أسبوعية. وهناك بحث علمي واحد على الأقل يصدر في هذا البلد أو ذاك شهريا، كما أن المؤتمرات الأهلية وتلك التابعة للأمم المتحدة، لا تتوقف عن الانعقاد. وفي كل مرة تعلن عن مصيبة جديدة ناجمة عن هذه الكارثة. وبعض الحكومات التي تخشى من العلاج بسبب التكاليف، يبدو أنها لا تتابع ما يصدر عن كل الجهات المذكورة، وإن فعلت فإنها لا تريد أن تستوعب فحوى المواد البحثية الدراسية بهذا الشأن. الخسائر من عدم حل مصيبة الاحتباس الحراري وتوابعه فلكية حقا. في دراسة أخيرة لكلية لندن للاقتصاد، ورد أن أصولا مالية غير مصرفية تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات (لا مليارات) في أنحاء العالم، قد تتأثر سلبا بظاهرة الاحتباس الحراري.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة (فاو) أكدت في أكثر من مناسبة، أن التغييرات المناخية على مدى السنوات العشر الأخيرة تسببت في خسائر اقتصادية عالمية بلغت 1.5 تريليون دولار. وقبل أيام، أشارت الأمم المتحدة في تقرير جديد لها، إلى أن التغير المناخي يخفض الإنتاجية، لأن ارتفاع درجات الحرارة يعرض العمال إلى الإصابات والتوعك ما ينعكس على إنتاجياتهم. وتقدر الخسائر في هذا المجال فقط بأكثر من ألفي مليار دولار سنويا بحلول عام 2020. دون أن ننسى، أن نحو أربعة مليارات نسمة يعيشون في المناطق الأكثر تأثرا بالاحترار المناخي، وأبرزها آسيا الجنوبية وجنوب الولايات المتحدة وأمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي وشمال أمريكا اللاتينية، فضلا عن شمال إفريقيا وغربها.
و"الكوكتيل" الناتج عن ارتفاع عدد سكان العالم والتغير المناخي، سيؤدي أيضا إلى مزيد من الكوارث الآتية حتما، إذا بقي التحرك في المواجهة عند مستواه الراهن. وذهب وزير خارجية النرويج السابق جونز ستور أبعد من ذلك، عندما قال قبل ثلاث سنوات "لقد تيقنت كوزير لخارجية بلادي، أن الاحتباس الحراري وانعكاساته الخطيرة، سيصبح مصدرا لعدم الاستقرار السياسي على مستوى العالم". وكمثال على التقاعس الحكومي، فإن بلدا مثل كندا تبلغ خسائره وفقا للأرقام الرسمية خمسة مليارات دولار من الآن وحتى عام 2020، وتصل الخسائر إلى ما بين 21 و43 مليارا في السنة بحلول 2050.علينا أن نتصور المجموع الكلي للخسائر في بلدان كبرى أخرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند.
في نهايات القرن الماضي، نشطت الشركات الكبرى المتهمة بالتسبب في التخريب البيئي بحملات مضادة، لـ "تأكيد" ألا دخل لها في هذا التخريب. إنها ذهبت أبعد من ذلك، عندما أنشأت مجموعات هائلة من "العلماء" أصدرت سلسلة من البحوث والدراسات، تدعم توجهات الشركات التخريبية. في ذلك الحين، تفجرت فضيحة تاريخية، باكتشاف العالم، أن هؤلاء العلماء لا علاقة لهم بالعلم، وإنما كانوا شخصيات مهتمة به من زاوية الاطلاع. ما حدث وقتها، أن انفرطت المجموعات التي وصل أعداد أعضائها إلى عشرات الآلاف، واعترف من تبقى لديه بعض من أخلاق، أن ما قاموا به ليس سوى مهمة مدفوعة الأجر من الشركات المتورطة. واعترفوا أيضا بألا دخل لهم في البحث العلمي وليسوا متخصصين، باستثناء بعض الاطلاع العام. وصلت الفضيحة وقتها، إلى انتحال بعض هؤلاء صفات الدكتور والبروفيسور والأستاذ الجامعي!
ومع ذلك لم تتوقف الشركات الكبرى المعنية، عن محاولاتها التضليلية، التي بلغت حد نفي وجود احتباس حراري أساسا! فالأرباح الهائلة التي تجنيها، أهم آلاف المرات من مصير كوكب برمته! ومن مستقبل أجيال قادمة ستدفع الثمن، سواء تمت السيطرة على تغير المناخ أم لا. وهذا ما يشبه إلى حد كبير استدانة الحكومات بصورة عشوائية، ما يحمل تلقائيا الديون إلى أجيال لم تولد بعد. صحيح أن النشاط التخريبي للشركات المشار إليها تراجع في السنوات الماضية، لكن الصحيح أيضا أن الحكومات لم تنه نفوذها بصورة آمنة. ومما لا شك فيه، أن الحراك الحكومي الراهن في البلدان الغربية الكبرى، سيسهم في إزالة ما تبقى من نفوذ لهذه الشركات، بل إن القيود الحالية على توسيع حجم الشركات من خلال الدمج والاستحواذ، هو بحد ذاته خطوة إلى الأمام.