النظر للابتعاث بموضوعية
تثير وسائل التواصل الاجتماعي بين وقت وآخر جدلا غير موضوعي حول جدوى الابتعاث، وأثره في اختلال القيم العربية الإسلامية لدى الشباب، وتتهمه، بل تحمله مسؤولية ارتكاب بعض الشباب أفعالا مخلة أو سلوكيات لا تتفق مع القيم والمبادئ الإسلامية أو بعض الأحداث التي تقع ضد المبتعثين والمبتعثات. ويبدو أنهم يتناسون أن الانفتاح العلمي بين دول العالم أصبح مطلبا للبقاء، وأن كل مبادرة أو أي برنامج لا يخلو من السلبيات، ولكن لا ينبغي أن تعمي السلبيات البسيطة البصائر عن الأهداف النبيلة والإيجابيات الكثيرة للابتعاث، الذي يعد من البرامج الوطنية الرائعة التي تحقق أهدافا تنموية واجتماعية لا تتضح نتائجها بين يوم وليلة، وإنما تمتد لسنوات عديدة، وتؤدي إلى نتائج محسوسة وغير محسوسة تسهم في رقي المجتمع وغرس قيم مهمة مثل قيم العمل والمحافظة على الوقت، واحترام الآخر، فهي تفوق السلبيات التي أراد بعضهم ــــ من منطلق حرصهم على المجتمع ـــ أن يضخموها بدرجة غير منطقية وغير واقعية، فما يحدث من خلل في الأخلاق والسلوكيات يمكن أن يحدث للشاب أو الشابة حتى لو كان يعيش في كنف أسرته، وما يحدث لبعض الطلاب يمكن أن يحدث أمثاله وأكثر داخل حدود الوطن، فكثيرا ما نقرأ ونسمع في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها عن تجاوزات أخلاقية كثيرة، بل ارتكاب شباب لم يسافروا خارج حدود الوطن جرائم جنائية وحشية ضد أقرب أفراد أسرهم، أو الانضمام إلى تنظيمات إرهابية تغذي أفكارهم ليكونوا أعداء لمجتمعاتهم وأقاربهم الأقربين أو حدوث تحرش بالفتيات أو اختطاف لهن.
لقد أصبح تنوع الطلاب مطلبا أساسيا للجامعات العالمية؛ لإثراء الدراسات العليا من خلال استقطاب طلاب متميزين من مختلف أرجاء العالم، لأنهم يمثلون رافدا مهما لرفع مستوى البحث العلمي وتحفيز الإبداع والابتكار. ولهذه الأسباب وغيرها، يلاحظ أن الطلاب الأجانب يمثلون نسبا كبيرة في الجامعات العريقة مثل هارفرد، وأكسفورد، وكامبردج، وشيكاغو، وبيركلي، وكاليفورنيا، وغيرها. ومن جهة أخرى، لم يؤدِ تفوق اليابان أو كوريا صناعيا إلى إيقاف الابتعاث إلى أمريكا وأوروبا. فمن المؤكد أن الجودة والتميز والابتكار في البحث العلمي تتطلب الانفتاح من خلال استقبال الطلاب من مختلف الثقافات، وإرسال الطلاب إلى أرقى الجامعات، إضافة إلى بناء شراكات مع العلماء والباحثين المميزين. ولو أن هناك شكا في قدرة المبتعثين على الإبداع والإضافة النوعية للاقتصاد المبني على المعرفة لما سمحت الولايات المتحدة للمبتعثين من جميع البلدان بالبقاء على أراضيها والعمل لمدة سنة قابلة للتمديد. وهناك أكثر من 130 ألف طالب ألماني يدرسون خارج ألمانيا، ونحو 700 ألف طالب صيني يدرسون خارج الصين، والسعودية ليست استثناء، فهي تؤمن منذ وقت مبكر بأهمية الابتعاث وضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين وتقدمهم في مختلف العلوم والفنون، وتجلى ذلك في ابتعاث 26 طالبا في عهد المؤسس الملك عبد العزيز ـــ يرحمه الله ـــ.
والسؤال الذي يبرز بين الحين والآخر في وسائل الإعلام: ما الأهداف من الابتعاث؟ وما الإيجابيات والسلبيات المترتبة على الابتعاث للخارج؟ لا يخفى على أحد أن من أهداف الابتعاث ما يلي:
(1) تزويد سوق العمل المحلية باحتياجها من الكوادر السعودية المؤهلة المتخصصة.
(2) إتاحة الفرصة للمتميزين من أبناء الوطن للحصول على تعليم متميز في المؤسسات التعليمية المتميزة عالميا.
(3) تعزيز التواصل الثقافي مع الثقافات المختلفة، والتعريف بالثقافة العربية الإسلامية.
(4) الاستفادة من تقدم العلوم وتنوع التجارب والخبرات في الشرق والغرب؛ ما يثري المجتمع السعودي عموما، والمؤسسات التعليمية خصوصا.
أخيرا لا ينبغي تحميل الابتعاث ما يحدث لدى بعض المبتعثين من ابتعاد عن القيم الدينية أو ارتكاب سلوكيات مخلة يمكن أن تحدث حتى داخل بلدانهم، ولا ينبغي أن تعمى البصائر عن الإيجابيات العظيمة للابتعاث، فهناك مبتعثون أصبحوا دعاة يشار إليهم بالبنان، وآخرون قدموا خدمات جليلة لبلدانهم من خلال توليهم مناصب عليا في الدولة، وآخرون أيضا عملوا في مختلف مؤسسات الدولة ومنشآت القطاع الخاص، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الطالب ـــ على المستوى الشخصي ــــ يستفيد من الابتعاث من خلال تعوده على الاعتماد على نفسه في وقت مبكر من العمر؛ ليتمكن من صنع قراراته بنفسه، ما يكسبه "أو يكسبها" قوة في الشخصية وإدراكا لكيفية التعامل مع الحياة والناس.