تجربتان للتحول .. روسيا وماليزيا
في قراءة التجارب المعاصرة للدول في مشاريع "التحول الوطني" نقبض على تجربة النجاح العظيم بقيادة رئيس الوزراء الدكتور مهاتير محمد في إعادة بناء ماليزيا حجرا على حجر، وتجربة الفشل المروع، والمخيف الذي قاده ميخائيل جورباتشوف عام 1988ـــ1991 في الاتحاد السوفياتي. ودون قصد، ولا إرادة انتهى من تعمير روسيا إلى تفكيكها تماما!
جورباتشوف.. كان تصوره للواقع يختلف كليا عن حقيقته، وكان شديد الإخلاص والصدق والرغبة في خدمة شعبه، ووطنه، إلا أن تسرعه في التغيير، وتغييب الخصوصية الروسية، وعدم تأهيل الواقع للتقبل والتحول، وفرض تطبيقات كان الواقع والناس في حاجة إلى مزيد من التحضير والتهيئة لتقبلها والتحول إليها. إن المجتمع كل مجتمع كجذوع الشجر القديمة وأغصانها الطرية، حتى نشكل الأغصان يجب دائما أن نكون حريصين كل الحرص على عدم موت الجذور وعدم قطع الجذع القديم منها! يقال كانت أمامه فرص كبيرة، حرمته الرغبة في سرعة التغيير من الالتفات إليها، ثمة جوائز هائلة دوليا توالت عليه من دول كانت تترقب بخبث المآل الذي ينتظره ولا يراه في غمرة الحماسة، وشدة الإصرار عليها. وكان الوقت والصبر والترتيب، وحكمة التفاصيل، ووعي التدرج، وفهم المكان وعقول وقلوب أهله.. كل هذا استغشى ثيابه من أمامه، وأصر بسرعة التحول الذي انتهى إلى ما لا يريد، ولا يحب، ولا يتمنى! تجربة التحول الوطني كانت مروعة جدا، ومخيفة جدا، ومؤلمة للجميع، حتى للذين تمنوها بخبث وترقب عن قريب.. فقد ولت الحماسة وظل الواقع بكل مرارته وقسوته وخسارة ما تبقى منه!
في زمن غير بعيد عنه، كان الطبيب مهاتير محمد يكتب لوطنه الفقير شهادة ميلاد جديدة، التي عمل على تحقيقها في زمن يكفي لنضج إدارة التفاصيل، والقدرة على التحول البصير واليقظ إليها، استوعبت عقدين من الزمن، قضاهما مهاتير محمد في تحديات شاقة، وعسيرة ـــ وصعبة جدا، ومؤلمة في مرات كثيرة لأن تحويل بلد فقير وزراعي إلى بلد صناعي ومتقدم، ومتحرر تماما في السياسة والاقتصاد، هذا البلد الذي يدردر أهله فقر شرس، وعوز عادل، يستوعب الشعب بأكمله، المستعمر البريطاني لماليزيا، كانت تركته الثقيلة الفقر، وعقل التخلف، بحيث ينتج الماليزيون التخلف والجهل والفقر بذات الأدوات التي يستعملها غيرهم لإنتاج المعرفة والإنتاج والعلم. إلباس الموت بلباس الحياة، الاستعمار كان يعلمهم الجهل بوصفه علما خالصا نقيا، وكان التخلف سلوك مجتمع وحياة الناس.
الناس آمنت بالفكرة أولا، وآمنت بالقائد ثانيا، وآمنت بصدقه لهم، ثم أبصرت نعم الله وهي تتنزل على الصادقين، إن الإخلاص يستعصر الغيوم، ويستنزل المطر دائما.. تحول متوسط دخل الفرد من 350 دولارا إلى ثمانية آلاف دولار، وتحول ملايين من الماليزيين الذين كان لهم من اقتصاد بلدهم فقط 2 في المائة من حجم الاقتصاد المحلي إلى شركاء في اقتصاد صناعي عملاق لا يتوقف عن التطور والتنوع والنمو.
لقد تحقق هذا بعد الاستعمار البريطاني الخبيث، الذي لم يترك للناس في ماليزيا غير حشاشة فقر، وغثاء أحوى، وخمط وأثل من كراهية الماليزيين لأنفسهم لأسباب عرقية ودينية ومذهبية، وعقدة استعلاء بعضهم على بعض.. فكان من شتاتهم وضعفهم وعجزهم هذا الذي كان، وتحقق وما انتهت إليه ماليزيا بتحول فريد عظيم.
السعوديون اليوم.. يبنون بيوتهم بأيديهم، وأمامهم سبل ليست باليسيرة كما هي محمولة في كلمات، تفكيك بنية الفساد قاسية وعسيرة، وتفرض تضحيات كبيرة، وترك ما هم معتادون عليه، ولن يكون بوسعهم حينئذ التوقف في منتصف الطريق، أو القبول بنصف الحلول، يجب ساعتئذ أن تكون كل التفاصيل حاضرة، وكل الخطوات معروفة، وكل الحاضر والمستقبل مكشوف للجميع.. يشارك فيه الجميع، أن يصنع المجتمع حاضره ومستقبله، ليس بوسع أحد أن يكون متفرجا أو منتظرا لموسم الحصاد.