الهوية في زمن التحديات «2 من 2»
استكمالا لما تناولته في مقال الأسبوع الماضي بشأن ندوة الهوية التي عقدت في جامعة الإمام، يلزم أن أشير إلى أمر مهم بشأن الهوية، خاصة في بعض المجتمعات التي تبحث عن هوية خاصة بها، تتميز بها عن غيرها من المجتمعات، كما حدث في تايوان، حيث كان مسمى الدولة سابقا جمهورية الصين الوطنية، وكانت المناهج تركز على هذا المنحى، لكن التايوانيين توصلوا إلى قناعة مفادها ألا مناص من إيجاد هوية تميزهم عن الصين الشعبية، وهذا ما حدث، حيث شكل مفكروها وتربويوها نموذج هوية جديدا برموز، وعلم، ونشيد خاص، وهذا المثال ينطبق على دول ومجتمعات أخرى كانت مشتتة الهوية حتى تمكنت من الرجوع إلى تاريخها وأدبها وثقافتها ووجدت فيها عناصر تمثل نموذج هويتها.
أخذا في الاعتبار لتعريف الهوية بأنها البناء الوجداني والعقلي الذي يجعل الفرد إما متمركزا حول ذاته، أو مرتبطا بجماعة يشترك معها في عرق، أو دين، أو ثقافة تميزهم عن غيرهم، ويشعرون بانتمائهم لبعض بناء على هذه الرابطة. هذا التعريف يقودنا إلى سؤال: ما هي عناصر ومكونات الهوية؟ الأدبيات في هذا الموضوع تشير إلى عناصر عدة منها اللغة، والدين، والثقافة العامة، والعقد السياسي، والاجتماعي الذي يحدد المبادئ، والثوابت المتفق عليها، والحقوق، والواجبات، إضافة إلى الأدب والفنون وطريقة التفكير واللباس والعلم والنشيد الوطني والجنسية والقيم والغذاء والأسماء، ولذا تلجأ المجتمعات، أو الأقليات داخل المجتمعات الكبيرة إلى التشبث بهذه العناصر، أو بعضها، وتحافظ عليها، وتدافع عنها باعتبارها مكونات هويتها.
قيمة الهوية الجامعة أنها إذا أصبحت محل إجماع من قبل أفراد المجتمع، أو غالبيتهم تمثل صمام أمان يترتب عليه الاستقرار والطمأنينة الاجتماعية، لكن متى ما حدث تصدع في الهوية، ومتى ما بدأت النعرات الطائفية والإقليمية والمذهبية تأخذ طريقها فهذا إيذان بدخول المجتمع مرحلة الصراع والانقسام إلى فئات متصارعة كل منها يتمترس في خندق الهوية مدعيا الدفاع عنها وساعيا لصيانتها، وأقرب مثال على ذلك ما يحدث على وجهه التحديد في العراق، حيث حرب الهوية على أشدها بين مكونات المجتمع منذ الاحتلال الأمريكي والإيراني الذي بعث الهوية الطائفية وجعلها أساس النظام السياسي الذي يحكم به البلد.
في البحث الذي قدمته في الندوة أشرت إلى أنه في عصر العولمة تتعرض الهوية إلى هزات تؤثر فيها سلبا، إن لم تكن تأسست بشكل سليم يركز على المشتركات، ويتجنب المختلف عليه، مع تركيز ثقافة العذر في المختلف عليه، ولا ننسى الجهود التي تبذلها الدول المهيمنة على العالم في سعي منها لتأكيد مركزيتها للعالم ليس في الاقتصاد والصناعة والتبعية السياسية، بل في منظومة القيم وطريقة التفكير وأساليب وأنماط الحياة، وهذا ما طالب به مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر حيث قال إنه من الضروري لأمريكا أن تقدم نموذجا كونيا للحداثة يحمل في طياته القيم الأمريكية.
غريزة حماية الذات الفردية، أو الجماعية ممثلة في الهوية التي يلتقي عندها الناس ويؤمنون بها تتحرك بجميع الوسائل للمحافظة على الهوية بصور عدة، وحسب ما هو متوافر، وممكن، إما بالكتابة والخطابة، أو بالتأليف ومقارعة الحجة بالحجة، أو حتى بالسلاح متى ما شعر الناس بتهديد هويتهم واستبدالها بهوية أخرى، ولنا في أحداث التاريخ الكثير من الشواهد.
يختلط الأمر على البعض في مفهوم الهوية خاصة حين يتم طرح مفهوم الهوية الوطنية، إذ يختزلها البعض بالجنسية والانتماء لبقعة جغرافيه، لكن هذا قصور في الرأي، فالهوية أعمق من هذا بكثير، خاصة في بلد كالمملكة، ولعل النموذج الذي ورد في البحث يبين المراحل والتسلسل الذي يسير عليه تشكل الهوية، فما من شك أن الهوية الفردية هي المنبت الأساس في بناء وتشكل الهوية في الصغر، فالفرد يعبر ابتداء عن نفسه بأنه لمحدودية الخبرة، وقلة النضج، وضيق دائرة التحرك، لكن حاجة الانتماء تقوده للتعبير عن أسرته وعشيرته، أو طائفته، ومع الوقت ومزيد خبرة تتسع الدائرة ليكون الانتماء للمجتمع بقيمه وثقافته وعاداته وتقاليده. وفي رأيي تأتي الهوية الوطنية منبثقة ومتأسسة على الهوية الاجتماعية، ووفق هذا النموذج يتحقق تقدير الذات الذي يحمل الرضا والطمأنينة.
الهوية الاجتماعية في رأيي أعم، فهي كالشجرة، ذات الأغصان والأفرع، ومنها الهوية الوطنية لتعود كل هذه الأغصان إلى الشجرة الأم في جميع خصائصها ومواصفاتها، وكم هالتني نتائج الدراسة الميدانية على طلاب الجامعة إذ وجدت أن الهوية الفردية هي البارزة ولا وجود للهوية الاجتماعية والوطنية إلا لدى عدد قليل من الطلاب، فهل نبحث عن الخلل ونعالجه؟!