الهوية في زمن التحديات «1من 2»
عقدت خلال يومي الأربعاء والخميس 28 - 29 من شهر جمادى الآخرة لهذا العام الندوة العالمية الثالثة لعلم النفس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بحضور كبير من داخل المملكة وخارجها، إذ شارك فيها أساتذة من مصر، السودان، الكويت، قطر، الأردن، مع أساتذة من المملكة. كان موضوع الندوة الهوية، وتحديات العصر، ويمثل الموضوع قضية أساسية لعدد من التخصصات في العلوم الإنسانية كعلم النفس، والاجتماع، والتربية، والأنثروبولوجي، والسياسة، لما للهوية من أهمية كبيرة لأي أمة. الهوية تمثل رباطا يلتقي عنده أفراد المجتمع، ويتشاركون في مكوناته، هذا الرباط يتشكل منه بناء عقلي ووجداني يجعل الفرد إما متمركزا حول ذاته منعزلا عن الآخرين، أو مرتبطا بجماعة يشترك معها في عرق، أو دين، ولغة، وثقافة عامة، وعادات وتقاليد، وعقد سياسي، وأدب، وفنون، ولباس، وطريقة تفكير، ونظام حياة يسير عليه المجتمع.
الهوية الجامعة بصورة مطلقة قد لا تكون متحققة في أي مجتمع، إذ لا بد من تباين بين المكونات في قضايا جزئية لكنها تبقى غير مؤثرة ما لم تمس الجوهر الذي يقوم عليه المجتمع، ويحفظ له تماسكه، وطمأنينته، ولذا تحرص جميع المجتمعات على تنشئة أبنائها على هوية واحدة يلتقي عندها الجميع، وذلك من خلال مؤسساتها التربوية، والإعلامية، وكل وسائط تشكيل العقول، والوجدانيات.
في البحث الذي عرضته في الندوة بعنوان الهوية الفردية والاجتماعية لدى طلاب الجامعة أشرت إلى المراحل التي تتشكل من خلالها الهوية، إذ إن أول مرحلة تتمثل في وعي أفراد المجتمع بعناصر ومكونات الهوية، وإدراكها بشكل صحيح بعيد عن الاختلافات، هذا الوعي نتيجته تشكل رؤية مشتركة يلتقي حولها الجميع وهذه المرحلة الثانية، أما المرحلة الثالثة فهي سيادة الشعور بالتضامن والتلاحم، أي وجود عصبية تجمع بينهم، وتقرب الأفراد مع بعضهم البعض، المرحلة الرابعة التي يمر بها تشكل الهوية مرحلة الولاء وشعور الأفراد بالمستقبل الواحد، والمصير المشترك في الأهداف والمصالح.
هل تتغير الهوية؟ نعم الهوية تتغير ويعتريها الضعف، والقوة حسب الظروف والأحوال التي يمر بها الأفراد، والمجتمعات، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن الهوية تتشكل في أحضان الثقافة السائدة، فهي الوعاء الذي يتم من خلاله وضع بذور الهوية، ومن خلال مراحل العمر تتم تغذيتها. لو أنزلنا المراحل السابقة على الواقع المعاش والذي يصعب معه التحكم في الثقافة التي يتلقاها الأفراد خاصة مع الفضاء المفتوح لوجدنا أن الأمر ليس بالهين، إذ أن تعدد المشارب، والأطروحات الفكرية، وتنوع أساليب تقديم الوجبات الثقافية يجعل من السهل اختراق الثقافات، وذلك بتشكيل العقول وتغيير الاتجاهات، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى التأثير في الهوية إن لم يكن تغييرها.
موضوع الهوية خاصة الاجتماعية، أو الوطنية ليس هما محليا فقط، بل كل المجتمعات يعنيها هذا الموضوع، تجنبا لما يترتب على ضعفها من فوضى، وفقدان للطمأنينة، أو تفكك. في البحث أشرت إلى أن الهوية لا تتغير بصورة مفاجئة، بل تدريجيا من خلال التشكيك بالثوابت، والجذور أولا، ومن ثم التشقق، يليه التمزق، ثم تحلل عناصر الهوية، وافتقادها لتماسكها، لنصل إلى اكتساب هوية جديدة، والتخلي عن الهوية الأساسية، وتسهم مجموعة من العوامل في ضعف الهوية، أو تغيرها، مثل تغير القناعات من خلال إدراك حقيقة، أو حقائق غائبة عن الفرد، إضافة إلى الضعف الاقتصادي، وتردي الأحوال المعاشية، ما يجعل من السهل خلخلة الهوية لا سيما في حال هشاشتها. يضاف لما سبق التدخلات الخارجية التي تجد منافذ تتسلل من خلالها مستغلة بعض الأوضاع في مجتمع، أو استغلال بعض الأطراف، والمكونات الصغيرة، مثل الأقليات من خلال إثارة مشاعر الإثنية العرقية أو المذهبية.
المجتمعات الغربية يرى مفكروها أن الديمقراطية والحرية صمام أمان للمحافظة على الهوية لما يرونه من إمكانية حل جميع المشكلات من خلال الحوار، والنقاش لكل القضايا. ومع أهمية الديمقراطية والحرية، لما تحققه من مشاركة، وبما ينتج عنها من شعور بالانتماء الذي هو ركيزة مهمة في الهوية، إلا أن بعض الدول الغربية تعاني توجهات انفصالية، كما في بريطانيا وإسبانيا وأوكرانيا ومن قبل صربيا والبوسنة وكوسوفو وأوكرانيا وغيرها، وللحديث بقية في مقال آخر.