عندما يسلب الإنسان إنسانيته
كثيرة هي الأشياء الجميلة، وأخرى سيئة، وشعور الفرد السوي بالأشياء الإيجابية أمر مطلوب ومتوقع، وفي الوقت ذاته الشعور بالاستياء من الأمور السيئة شيء أساس من قبل من لديه بقايا المشاعر الإنسانية. كنت أشاهد برنامجا تلفزيونيا يتحدث عن مصنوعات جلدية كالأحذية، والأحزمة، والمحافظ ولا أخفي على القارئ الكريم أني شعرت بالغثيان والتعب النفسي، والسبب أن المصنوعات من جلد الإنسان الذي يؤخذ منه بعد وفاته، لكن الشركات المصنعة لها شروطها في نوع الجلد، إذ لا بد أن يكون مرنا، وليس من النوع القاسي، وهذا يستلزم أن يكون صاحبه يرطبه أثناء حياته.
ما هالني الأسعار العالية لهذه المنتجات، فالحذاء تبلغ قيمته 18 ألف يورو، أما المحفظة فتكلف 14 ألف يورو. هذا النشاط ليس النشاط الوحيد الشاذ والغريب بل تضاف إليه التجارب التي تجريها شركات صناعة الأدوية، حيث تجري التجارب على أفراد من مجتمعات فقيرة، وينقص أفرادها الوعي والثقافة التي تمكنهم من معرفة الأضرار المترتبة على تعاطي هذه الأدوية، ولذا يتحولون إلى حقل تجارب إما لجهلهم أو لحاجتهم للمال. ويضاف لما سبق الأسلحة التي يتم اختبارها في الحروب على شعوب قدرها أن يكونوا ضحايا الحروب والنزاعات، وأحدث ما تم ويتم هذه الأيام على الساحة السورية. إذ صرح المسؤولون الروس أن من فوائد تدخلهم في سورية اختبار كفاءة أسلحتهم الجديدة ليكون الأبرياء حقل التجارب، وليس الأمر مقتصرا على الروس، بل أمريكا جعلت الفيتناميين حقل تجارب لأسلحتهم الجديدة، كما أن ما تعرض له العراقيون أثناء غزو بلادهم من قبل أمريكا وبريطانيا وما ترتب على الغزو من أمراض غريبة على المجتمع العراقي يؤكد المنحى اللاإنساني والمتجرد من الأخلاق.
الغرب كثيرا ما يرفع شعار حقوق الإنسان ونصب نفسه محاميا عن هذه الحقوق وتوجد فيه الكثير من الهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان إلا أن الغريب أن الإنسان ليس واحدا بالنسبة للغرب فالعرق، واللون يمثلان منطلقا أساسيا في تصنيف من يجب التحرك وبحماس منقطع النظير للدفاع عنه بحجة خرق حقوقه الإنسانية ومن لا يمكن الاهتمام بمعاناته واستهدافه وخرق حقوق الإنسان بشأنه.
جمعيات حقوق الحيوان تتحرك بقوة لحماية الحيوان الذي تستخدم جلوده، وقرونه في صناعة الملابس الجلدية والتحف، وبقية الإكسسوارات، لكن الإنسان يبقى حلقة ضعيفة في هذا السياق. الأمر المهم بالنسبة لنا معرفة الأسباب التي تدعو إلى استخدام الإنسان كبضاعة ومنتجات تسوق وبأغلى الأثمان، وهل السعي للكسب وتحصيل المال أسمى ما يسعى إليه البعض. هل افتقد الإنسان المعاصر القيم التي توجب عليه احترام الناس أينما كانوا وبغض النظر عمن يكونون.
الأديان السماوية والدساتير والقوانين كلها تؤكد على كرامة الإنسان والعناية بها ومنع أي تصرف أو فعل من شأنه سلب الكرامة، أو إهانتها، أو التعدي عليها. تحويل الإنسان إلى سلعة تعرض في الأسواق يصعب تفسيره إلا من خلال تجرد الإنسان من إنسانيته، وسيطرة التفكير الرأسمالي البشع على تفكيره، وسلوكه، حتى تحول إلى قيمة رأسمالية، وليس كما أراد الله له سيدا في العالم يبنيه، ويستثمر عناصره المادية، لما فيه مصلحته ورفاهه "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات لعلهم يشكرون".
لا شك أن ثقافة الربح بغض النظر عن مصدر الربح، وآليات الوصول إليه لها دورها في جعل كرامة الإنسان في أدنى سلم الاهتمام لدى من تسود لديهم هذه الثقافة، وتشكل تفكيرهم، واتجاهاتهم نحو الإنسان نفسه، تساءلت وأنا أشاهد البرنامج: ما شعور الفرد الذي يشتري حذاء مصنوعا من جلد الإنسان؟ هل يشعر بالارتياح وهو يهين شخصا آخر بتحويله إلى حذاء، أم أنه لم يخطر بباله مفهوم الإهانة حتى يشعر بتأنيب الضمير؟!
نملك مشروعا حضاريا متكاملا، وثقافتنا تؤكد إنسانية الإنسان، بغض النظر عن لونه، وعرقه، لكن مشكلتنا أننا لا نقدم مشروعنا الحضاري للعالم بديلا عن المشاريع التي حولت الإنسان إلى مادة تجارية يستخدم جلده، وفي الدعاية، كما توظف المرأة بصورة مخزية، ولذا أتساءل: لماذا لا يتحرك مندوبو الدول الإسلامية في المنظمات الدولية، وفي الإعلام لإثارة هذه القضايا بحكم أنها ممارسات تهدر كرامة الإنسان، لقد حان الوقت لنقدم مشروعنا الحضاري بدلا من تلقي الضربات ونتصرف بصورة دفاعية.