التعداد العام للسكان والتخطيط
أحسب ونحن نباشر وضع خطط مشروع التحول الاقتصادي أننا في أمس الحاجة إلى تعداد عام للسكان، لأن التعداد العام للسكان يعتبر البوابة التي تدخل الحكومة من خلالها إلى غرفة تشريح المجتمع لوضع الخطط اللازمة لحل مشكلاته، ودون الدخول من بوابة التعداد فإن مشكلات المجتمع السعودي لن تجد حلا، بمعنى أن التعداد العام للسكان هو مفتاح تصميم الخطط المستدامة في أي مجتمع من المجتمعات، ونذكر جميعا أننا أجرينا إحصاء للسكان عام 1974 ولم تكن المملكة تزخر بهذا الكم الهائل من الطوفان البشرى القادم من كل أنحاء شبه القارة الهندية والفلبين وإندونيسيا ومن اليمن الشقيق ومختلف الدول العربية الشقيقة، وكان إجمالي عدد السكان يبلغ في ذلك التاريخ 7.009.466 نسمة منهم 6.218.361 نسمة سعوديون، وكان عدد العمالة الوافدة ومعظمهم من الأشقاء في اليمن ومصر يصل إلى 791.105 نسمات، بمعنى أن غير السعوديين أقل من مليون واحد.
وهكذا كانت الاحتياجات التي يعانيها المجتمع بحجم هذا العدد البسيط من السعوديين وبحجم هذا العدد البسيط من غير السعوديين.
وحينما عادت الجهات المختصة وأجرت عام 1992 (بعد 18 سنة) التعداد العام للسكان للمرة الثانية أظهر التعداد أن إجمالي عدد السكان قفز إلى أكثر من الضعف وبلغ 16.948.388 نسمة، وكان السعوديون 12.310.053 نسمة، وعدد الأجانب 4.638.335 نسمة، وعند ذاك التاريخ بدأ الطوفان البشرى من الخارج يغزو المجتمع السعودي ويبتلع مزايا تنفيذ مشاريع وبرامج التنمية ويدخلنا في أتون قصور شامل في الخدمات، ومع قصور الخدمات جاء الطوفان البشرى الأجنبي بثقافات مختلفة اختلطت مع ثقافات المجتمع السعودي المحافظ.
أما التعداد الثالث للسكان فقد أجريناه عام 2004 (بعد 12 عاما) وبلغ إجمالي عدد السكان 22.678.262 نسمة منهم 16.527.340 نسمة سعوديون و6.150.922 نسمة من غير السعوديين.
وعلى الرغم من أن الملايين الستة من الأجانب تشكل تحديا صارخا لمجتمع محافظ إلا أن هؤلاء الملايين الستة يخفون خلفهم ستة ملايين آخرين من المخالفين لنظام الإقامة تمكنوا من التسلل إلى أمهات المدن وأنشأوا فيها محميات عشوائية يتحصنون فيها ويغيرون على كل من تسول له نفسه أن يقتحم أكواخهم وعششهم.
ومع أن الاعتمادات المالية لبرامج التنمية قد تضاعفت إلا أن الكتل البشرية الزاخرة المتسللة عبر حدود المملكة قد أربكت برامج التنمية وأبرزت قصورا ملحوظا في الكميات المتاحة من المياه والكهرباء والسكن والمستشفيات والمدارس وأجواء البيئة السعودية بصورة عامة.
والغريب العجيب أن معدلات الزيادة في عدد السعوديين رافقتها زيادة مضاعفة لعدد الأجانب القادمين للعمل في المملكة، أي أن الزيادة في معدلات السكان من السعوديين لم تحد من الزيادة في الطلب على القوى العاملة من الأجانب، وإذا كان هذا مقبولا مع بداية عصر التنمية، فقد حان الوقت أن نشهد تطورات موضوعية في العلاقة بين زيادة معدلات السكان مع زيادة عدد الوافدين، بمعنى أننا نتطلع أن تؤدي الزيادة في معدلات السعوديين إلى انخفاض الطلب على العمالة الأجنبية من الخارج، ولهذا كنت وما زلت مؤيدا ومشجعا زيادة معدلات عدد السكان، وطبعا الدعوة إلى زيادة عدد السكان تخالف تماما الآراء المطروحة بقوة التي تطالب بإنقاص معدلات الزيادة في عدد السكان التي يقال إنها باتت ترعب المهتمين برفع مستوى معيشة الإنسان السعودي.
وللأسف كلما تكالبت مشكلات شح المياه وانقطاع الكهرباء وأطلت أزمة السكن وضاقت الجامعات والمدارس بأبنائها وبناتها وتعرقلت مشاريع الصرف الصحي وزادت شرائح الباطلين عن العمل من الشباب والشابات، أقول كلما تكالبت هذه المشكلات وضغطت على المجتمع السعودي، فإن كثيرا من الحكوميين التنفيذيين يحملونها على الزيادة في معدلات السكان، ولا يحملونها ألبتة على الفساد الإداري ولا على الزيادة في معدلات التأشيرات التي تصدرها مؤسسات الاستقدام.
شخصيا أرى أن هذا القصور في الخدمات وهذه المشكلات التي يعانيها المجتمع السعودي هي نتيجة وليست سببا للزيادة في عدد السكان، لأن المشكلات التي نعانيها إنما هي إفراز طبيعي للنقص في عدد السكان، وبالذات هي إفراز طبيعي لنقص المهارات ونقص الكفاءات وبالتالي انخفاض الإنتاجية.
والمعروف بداءة أن ثروات الأمم إما ثروات طبيعية أو ثروات بشرية. وإذا كان الله -سبحانه وتعالى- قد حبانا بثروة طبيعية وهي البترول التي وضعتنا جنبا إلى جنب مع أغنى دول العالم، ولكن هذا المستوى من الغنى أوضح أن عدد السكان منخفض بالنسبة للثروة والمساحة الجغرافية.
إننا إذا سألنا عن المبررات التي تطالب بحرص شديد بضرورة خفض معدلات الزيادة في السكان.. نجد أنها مبررات يمكن أن تكون نافعة إذا كانت الأرض تضيق بأهلها، وأما إذا كنا بقعا بشرية متناثرة هنا وهناك وكانت الكوادر عاجزة عن زيادة معدلات الناتج القومي، فليس أمامنا إلا زيادة عدد السكان والعناية بالتدريب والتعليم والارتفاع بالقدرات والخبرات حتى نستطيع زيادة المعروض من المهارات السعودية في سوق العمل السعودية.
القول إن الزيادة في عدد السكان تضغط على الموارد وتؤثر سلبا في مستوى الخدمات التي تقدمها الحكومة إلى المجتمع، إنما يأتي هذا في ظل نظرية توماس مالتوس التى تقول -في المطلق- إن الزيادة في عدد السكان تضغط على الموارد وتلحق أضرارا بالغة بمعدلات التنمية، بل تقول إن الزيادة في عدد السكان عامل من عوامل زيادة معدلات الفقر، ولكن في مواجهة هذه النظرية فقد أثبت العلماء أن نظرية مالتوس لم تعد نظرية صحيحة، حيث إن انتشار التكنولوجيا وزيادة المهارات أديا وسيؤديان بالضرورة إلى زيادة معدلات التنمية وانخفاض معدلات الفقر، والأدلة كثيرة وماثلة، فالزيادة في عدد السكان في كوريا الجنوبية وفي سنغافورة وفي اليابان وفي تركيا والبرازيل حتى في الصين والهند لم تكن معيقة للتنمية، بل إن زيادة الانتشار التكنولوجي أدى في الصين والهند أخيرا إلى زيادة ملحوظة في التنمية وفي الثراء.
وفي ضوء ذلك نستطيع القول إن الآثار الديموجرافية تمثل حلقة رئيسة في كثير من تحليلات الاقتصاد الكلي التي تهدف إلى تخفيض الفقر وتحقيق مزيد من النمو، بمعنى أن وجود نسبة مرتفعة من الأفراد في سن العمل يعني أن هناك عددا أكثر من العمال لكل معال، أو بمعنى آخر إن التغير الديموجرافي على هيكل أعمار السكان يغير نسبة العاملين إلى المعالين، وسيترتب على ذلك زيادة في الإنتاج بالنسبة للاستهلاك، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
إن ما يجب أن نقوم به هو أن نبني سياسات سكانية تقوم على زيادة معدلات السكان بنسبة تتناسب مع معدلات الناتج الوطني لنحدث التوازن بين الزيادة السنوية في معدلات السكان مع الزيادة السنوية في الناتج المحلي الإجمالي، حيث إذا وصلت الزيادة في معدلات السكان إلى حد الإضرار بالاقتصاد، فإن تعديل السياسات السكانية شيء مطلوب، ونحن قادرون على تعديلها وإنقاص معدلاتها بالقدر الذي يحقق التساوي مع الناتج الوطني الإجمالي، ولكن لن يكون الهروب إلى الخارج واستقدام قوافل بشرية بكفاءات عمالية متواضعة هو المخرج السليم للأزمة.
بمعنى إن الزيادة في معدلات عدد السكان يجب ألا تكون في المطلق، وإنما يجب أن ترافقها منظومة كاملة لجودة نظم التدريب والتعليم وبناء مؤسسات التدريب والتعليم ومراكز الأبحاث القادرة على تخريج وتأهيل مزيد من المواهب والعبقريات التي تتمتع بكثير من المهارات وتتمتع بكاريزما الابتكار والحلول غير التقليدية وتتمتع بخصائص القيادات التنفيذية الماهرة المتطلعة إلى تطبيق منهج مالي وإداري يستطيع أن يبتكر ويرتفع بمعدلات الأداء والإنتاجية.