رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مقتضيات إصلاح أسعار المياه

من أول الأمور التي يتعلمها طلبة الاقتصاد مفارقة الماء والألماس. فكيف يكون الماء مجانيا وهو الذي لا تكون الحياة من دونه، بينما الألماس باهظ التكلفة رغم أن الافتقار إليه لا يميت أحدا؟
والإجابة هي أن الماء يمكن أن يكون مجانيا إذا كان وفيرا مقارنة بالطلب. ومع ذلك، فمن الواضح تماما أن الطلب على الماء يتجاوز المعروض في جميع أنحاء العالم. وهذا الاختلال هو أوضح دلالة على أن تسعير المياه أقل من قيمتها الحقيقية. ولكن كثيرا من الحكومات تتردد في تسعيرها مثلما تسعر السلع الأخرى. وفي دراسة صدرت أخيرا، نظرنا فيما إذا كان هذا الخيار هو الصحيح. فهل تنجح الحكومات في حماية مواطنيها بتوفير مياه رخيصة؟ أود اليوم إلقاء نظرة أعمق على هذا السؤال ونحن نشهد اليوم العالمي للمياه.
الواقع أنك إن لم تحدد سعرا صحيحا للمياه، سينتهي بك الأمر إلى سوء توزيعها اليوم وسوء توزيعها غدا. وسوء توزيعها اليوم يمكن أن يتحول إلى عطش، أو إنتاجية زراعية منخفضة، بل يصل إلى سوء المرافق الصحية والأمراض وسوء التغذية. أما سوء التوزيع غدا فيمكن أن يتحول إلى استثمار غير ملائم في البنية التحتية والتكنولوجيا لتلبية احتياجات المياه في المستقبل وضمان الأمن المائي.
تلك أمور بالغة التأثير حتى أنها تتسبب في قصور الأداء الاقتصادي الكلي ونمو الاقتصاد. ويمكن النظر إلى ضرورة تحديد السعر الصحيح في ضوء تجارب البلدان حول العالم. لننظر مثلا إلى حالة الهند، حيث يسهم التسعير المنقوص للمياه والمدخلات في الندرة الحالية والمشكلات طويلة الأجل التي سيكون حلها صعبا. وقد أدى الدعم المتعلق بالمياه – من خلال انخفاض أسعار الديزل والكهرباء المجانية لمضخات الري – إلى انتشار الاستهلاك المفرط للمياه الجوفية وزيادة ملوحة التربة، ما يكاد يمحو مكاسب الإنتاجية التي حققتها الثورة الخضراء في ستينيات القرن الماضي.
أو لننظر إلى كاليفورنيا حيث طبق المحافظ جيري براون في منتصف 2014 أمرا تنفيذيا يخفض استخدام المياه بنسبة 25 في المائة على مدار 12 شهرا التالية، مقارنة بمستويات 2013. وكانت هناك أسباب كثيرة لنقص المياه الحاد الذي شهدته كاليفورنيا، بما في ذلك موجات الجفاف الشديد ودرجات الحرارة المرتفعة غير المسبوقة، ولكن سوء التسعير لعقود طويلة أسهم بدوره في هذا النقص. وتوضح هذه التجربة أن للحوافز السعرية دورا كبيرا في ترشيد استخدام المياه.
وهناك عديد من الأمثلة من مختلف أنحاء العالم توضح أن التسعير الخاطئ للمياه يؤدي إلى ما يعرف باسم "مأساة الموارد المشتركة"، حيث يكون تصرف المستخدمين المنفردين لأحد الموارد تصرفا رشيدا من منظور منفرد وطبقا لمصلحتهم الشخصية، ولكنه يتعارض مع المصلحة المشتركة لكل المستخدمين من خلال ما يسببه من استنفاد للموارد. وما يدل على ذلك سرعة استنفاد المياه الجوفية وتدهور جودة المياه.
في كثير من البلدان، تتقاضى مرافق المياه العامة من الأسر نزرا يسيرا من تكاليف إمدادها بالمياه، ناهيك عن صيانة البنية التحتية أو التوسع فيها.
وتشير حسابات الاقتصاديين في الصندوق إلى أن هذا التسعير المنقوص أدى في عام 2012 إلى دعم المياه بقيمة كلية قدرها 456 مليار دولار تقريبا على مستوى العالم، أو نحو 0.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، علما بأن هذا الدعم يصل في بعض البلدان إلى 5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. ولا يتجاوز هذا قمة جبل الجليد، حيث تستبعد من هذه التقديرات الاستخدامات الزراعية، التي تشكل معظم استهلاك المياه في البلدان النامية.
بل إن دعم المياه يتجاوز الإنفاق الكلي على الاستثمار العام في بعض البلدان ما يشير إلى مزاحمة هذا الدعم لنفقات مهمة أخرى.
ولو أن توفير المياه مجانا كان في مصلحة الفقراء لكان من الممكن الدفاع عن هذا الدعم. ولكن دراستنا تخلص إلى أن توزيع دعم المياه غير متكافئ ولا يحقق هدفه المعلن.
ولما كان الدعم الذي يحصل عليه المرء يتناسب مع استخدامه للمياه، ولما كان الفقراء غالبا ما يتاح لهم كم محدود أو معدوم، فإن الدعم في البلدان النامية يذهب في النهاية إلى الشرائح متوسطة الدخل. وفي بعض الاقتصادات منخفضة الدخل، تحصل أغنى الأسر على دعم للمياه يعادل، في المتوسط، ثلاثة دولارات في مقابل دولار واحد لأفقر الأسر.
فما الحل إذن؟ حتى تزداد كفاءة استهلاك المياه، يجب اتباع منهج كلي يكمله إصلاح السياسات التي تدفع استخدام المياه ـــ بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويمكن أن تضع الحكومات قواعد تنظيمية تدعم حق الحصول على المياه وتشجع كفاءة استخدامه وتبني مؤسسات قوية ومستقلة تتولى إدارة المياه وتقوم بحملات توعية عامة تساعد على بناء الدعم لهذه الإصلاحات.
وينبغي أن يكون إصلاح تسعير المياه عنصرا أساسيا في أي جهود لتحسين إدارتها، إذ إنه يساعد على ترشيد الطلب على المياه وتحسين توصيلها وزيادة عرضها. وينبغي للحكومات أن تسعر المياه بصورة تحقق استرداد التكلفة بالكامل، بما في ذلك تكاليف الصيانة والاستثمار. وينبغي أيضا أن يكون التسعير مصمما بما يحقق التوسع في إتاحة المياه للشرائح الفقيرة والضعيفة.
ولنأخذ حالة بوركينا فاسو، على سبيل المثال. فقد استحدثت شبكة تعريفات تصاعدية لمياه الشرب تعتمد على حجم الاستخدام، مع جعل مستخدمي الشرائح الأعلى يدعمون الشريحة الدنيا، إضافة إلى أنشطة المرافق الصحية. ويباهي مرفق المياه العامة بمعدلات استرداد قدرها 87 في المائة، ونسب مديونية منخفضة، وأرباح سنوية. وبفضل إصلاح تسعير المياه، تضاعفت إتاحة مياه الشرب على مدار العقدين الماضيين ـــ وهو إنجاز بارز في بلد مياهه شحيحة وهطول الأمطار فيه شديد التقلب.
لماذا يهتم صندوق النقد الدولي بهذه المسألة؟ لا شك أن تحديات المياه يمكن أن تسفر عن عواقب اقتصادية، والفشل في إدارتها بشكل جيد يضعف آفاق الاقتصاد في البلد الذي يتعرض لها. ونأمل أن نتمكن من إلقاء الضوء على هذا الموضوع من خلال دراسة البعد الاقتصادي. وكما رأينا في مشكلة كاليفورنيا، يعتبر تأجيل التحرك ترفا لا طاقة للعالم به.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي