الموظف المتقاعد .. بين الوفاء والجحود

بداية يجدر أن نعرف الموظف المتقاعد، بأنه الإنسان الذي أحيل إلى التقاعد بعد أن شغل وظيفة أو مجموعة من الوظائف في القطاع الحكومي أو الخاص، واستمر يؤدي واجباته الوظيفية بكل وفاء وإخلاص منذ صدور قرار التعيين حتى صدور قرار إحالته إلى التقاعد، غالبا بعد بلوغ سن 60 عاما.
ومن منظور إسلامي بين القرآن الكريم مراحل حياة الفرد، وجعل الشيخوخة هي المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان الدنيوية، وقال - تعالى - "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون"، وورد في السنة، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين".
ويجب أن نعترف بأننا ـــ كمجتمع سعودي ـــ لم نكافئ الموظف المحال إلى التقاعد بما يستحقه من تقدير وتكريم، نظير ما قدمه إلى المجتمع من تضحيات وخدمات طوال فترة الخدمة، التي كان يقوم بها، بل بالعكس عاملنا الإنسان المتقاعد بالنكران والجحود وقفلنا أمامه أبواب الحياة الرغيدة والكريمة، وأعتقد أننا لا نبالغ إذا قلنا إن الموظف في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص دفع حياته وشبابه ثمنا لوظيفته، وطبعا جني فوائد هذه الخدمة من الرواتب المستحقة، التي كان يقبضها مع مطلع هلال كل شهر، ولكن لا ننسى أن الموظف أفنى ربيع عمره فداء لوظيفته، ولذلك حينما يحين وقت الاستراحة، فإننا يجب ألا نحرمه من الراحة ونيسر أمامه سبل الحصول على أبسط الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة، وهما السكن الدافئ والعلاج الذي يحتاج إليه بعد أن تخطى سن العمل وبدأ سن التقاعد، ومع هذه السن تبدأ معاناته الصحية.
ولكن المؤسف أن نظامي التقاعد والتأمينات لا يردان إلى الموظف الأموال التي اقتطعاها من رواتبه أثناء فترة خدمته، ولو استثمرنا جيدا ما أخذناه من الموظف طوال فترة خدماته لحصلنا على أضعاف ما نعطيه من راتب تقاعدي محدود، ونعرف جميعا أن الموظف المتقاعد لا يأخذ إلا راتبه التقاعدي المتآكل، وطبعا يحرم من كل المزايا والعطايا والعلاوات والزيادات، الأكثر من هذا فإن الأنظمة تحرمه حتى من الاقتراض من المصارف لبناء عش الحياة، ولذلك معظم المتقاعدين تركوا الوظيفة وهم فقراء لا يملكون سكنا يأويهم ويأوي أولادهم وأهليهم، وحتى القروض المشروعة لكل المواطنين تمنعها المصارف عن المتقاعدين، وتشترط لمنح القروض ألا يتجاوز طالب القرض سن 60 عاما، بمعنى أن القرض ممنوع على المتقاعدين، الأسخم من ذلك أن شركات التأمين نهجت نهج المصارف نفسه ومنعت التأمين الصحي عن الذين تجاوزوا الـ 60 عاما، والذنب الذي ارتكبه المتقاعد هو أنه بلغ الـ 60 خريفا، وطالما أنه بلغ هذه السن فيجب ـــ كما ترى المصارف وشركات التأمين ــــ أن يخرج من رحمة قوانين الإنسان.
واضح أن مجموعة الأنظمة التي تحاصر الموظف المحال إلى التقاعد تتسم بأنها أنظمة وكأنها قد صدرت خصيصا لتعاقبه على الخدمات الجليلة التي قدمها إلى مجتمعه ووطنه طوال 40 ربيعا التي قضاها على رأس العمل، والبداية تبدأ بنظام التقاعد أو نظام التأمينات الاجتماعية اللذين يعتبران شحيحين في رواتبهما التقاعدية، ولكن الأسخم من ذلك هو مجموعة النظم والقواعد التي يضطر الموظف المتقاعد إلى التعامل معها فور خروجه من الوظيفة، وهي أنظمة القروض المصرفية التي يحتاج إليها لبناء سكن له ولأولاده، وأنظمة التأمين الصحي التي يتمناها لترميم ما تبقى من الصحة.
وما كان يجب أن نفعله إزاء الموظف المتقاعد هو أن نعتبره الأجدر بتقديم التسهيلات التي تتناسب مع ظروف تقاعده وتأخذ بيديه إلى حياة رخية وكريمة ينهي بها بقية عمره، أما أن نعرضه لحياة تعيسة وقاسية بعد أن قدم لنا زهرة شبابه، فهذا منطق ترفضه أبسط قواعد حقوق الإنسان.
البعض يقول إن قوانين القروض والتأمين التي تطبقها المصارف وشركات التأمين في المملكة هي القوانين السائدة في كل أنحاء العالم، وإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نتمنى أن نكون حريصين على تطبيق قوانين لا تراعي أبسط قوانين حقوق الإنسان، وتتنكر لموظف أفنى زهرة شبابه في أدائه عمله أيام الصحة والنضارة والعز، وما نعرفه يقينا أن الغرب يميز الموظف المتقاعد بكثير من المزايا والعطايا ولا يتركه يغرد وحيدا في العوز والفاقة والحرمان.
إن أهم ما يحتاج إليه الموظف المتقاعد هو سكن يلم شمل أسرته ويستر عوراته، وتأمين صحي يعينه على أمراض الشيخوخة التي تبدأ في مغازلته بعد بلوغ الـ 60 خريفا.
وشيء جميل أن يجتمع المتقاعدون ويؤسسوا جمعية يحتمون بها، ولكن الأجمل أن تحقق الجمعية أهدافها، وأهم تلك الأهداف هو تسهيل الحصول على قرض مصرفي للمتقاعدين أسوة بإخوانهم بقية المواطنين في كل الشرائح، وكذلك حصولهم على بوليصة تأمين صحي تحمي جيوبهم المكدودة من هجمات تكاليف العلاج التي ترتفع مع تقدم السن، وحتى الآن يبدو ـــ للأسف الشديد ـــ أن الجمعية أضعف من أن تحقق شيئا للمتقاعدين اللاهثين، فالأنظمة المعارضة للمتقاعدين صريحة وواضحة، والجمعية بضعفها لا تقوى على تعديل هذه الأنظمة المتمسكة بقواعدها المجحفة للمتقاعدين.
نحن هنا نتمنى ألا ينظر إلى الموظف المتقاعد على أنه شريحة من خارج النظام الاقتصادي الوطني، لأن الموظف في القطاع العام أو الخاص هو جزء لا يتجزأ من نسيج الاقتصاد السعودي الوطني، ولذلك فإن تحسين أوضاع المتقاعدين من شأنه أن يرفع مستوى معيشة المواطن السعودي.
إن أبسط قواعد العدل والمساواة تقتضي بالضرورة وضع صيغ مناسبة لتحقيق العدل بين كافة الموظفين، وإذا كانت الحكومة تقر زيادة رواتب المتقاعدين في القطاع الحكومي، فإن الحكومة ـــ وهي المسؤولة عن رعاية حقوق مواطنيها كافة ـــ ملزمة بزيادة رواتب المتقاعدين في القطاع الخاص، لأن الزيادة هنا لا تبنى على قاعدة الانتماء الوظيفي، وإنما تبنى على قاعدة المواطنة والمصلحة العليا للأمة السعودية والاقتصاد الوطني، ونعرف جميعا أن تحسين أحوال فئة من الموظفين وحرمان فئات أخرى لن يؤدي إلى تأثيرات إيجابية في الاقتصاد الوطني، بل بالعكس فإن حرمان الأغلبية من مزايا زيادة دخولهم ومزايا التأمين على صحتهم ومزايا التسهيلات المصرفية لهم.. ينعكس سلبا على الاقتصاد الوطني، بل على العلاقات بين هذه الفئة ونظيراتها من الفئات الأخرى.
إذن مطلوب من الجهات المعنية، وبالذات وزارة الخدمة المدنية ومؤسستا التقاعد والتأمينات الاجتماعية ضرورة إعادة النظر في الأنظمة المتعلقة بالمتقاعدين، ومطلوب منها أن تحرص على تطويرها بما يتلاءم مع حفظ الكرامة الإنسانية، وبما يعبر عن التراحم الذي أمرنا به ديننا الإسلامي الحنيف، حتى نحافظ على مجتمع إسلامي مشرف ونموذجي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي