سعودة مواقف السيارات قبل محال الجوالات
هكذا نصر على أن نسير في المتاهات الاقتصادية ونعود دائما من حيث بدأنا، أعرف أن السياسة تتأثر بالاقتصاد، ولكني متأكد تماما أن الاقتصاد لا ولن يعبأ بالسياسة. فالاقتصاد آلة حرة خلقها الله هكذا، لن تحابي أحدا ولن تخضع لشروط وقت، تهزم القوى كلها وتفعل الأعاجيب، واسألوا أهل الرأسمالية المطلقة قبل الكساد وبعده، واسألوهم عندما انهارت الأسواق المالية وعن الأيام السوداء، وعن أسباب الحرب الأولى والثانية وحرب الـ 60 عاما، وعن انهيار سوق الرهن العقاري. اسألوا أهل الشيوعية والاشتراكية والقومية العربية، هل رأوا الجنة على الأرض عندما أجبروا الاقتصاد على أن يسير وفقا لهواهم، أين لينين وستالين وماو الصين والمجاعات الكبرى. آلة الاقتصاد تصنع الحروب وتطفئها، تميت الدول وتحييها ـــ بإذن الله ــــ. هي كعضلة القلب تعمل وفق إرادتها الحرة وليس لصاحبها عليها إرادة، تحيا معه هكذا أو تموت. العبث في الاقتصاد بأي حجة سياسية كانت أو اجتماعية لا تؤمن عواقبها ولو بعد حين. للأسف نحن لا علميين في التعامل مع الاقتصاد، فلا نحن مناطقة ولا نحن تجريبيين. نصر بشكل درامي على مسألة التوطين بقوة القانون وسيادة الدولة، لكن تجربتنا لا تؤيد ما ننظر إليه. قمنا بسعودة الخضار ولم ننجح، ثم الذهب وتراجعنا، ثم قررنا تأنيث المحال النسائية، فوضعنا حاجزا بين البائعة ومن يقوم بوضع المبيعات في سلة المستهلك. فرضنا "نطاقات" فزادت العمالة الأجنبية والبطالة معا. فلماذا نصر على أن نقوم اليوم بعكس ما تمليه علينا التجربة ونفرض سعودة سوق الاتصالات ومحال الجوالات. قدموا دليلا علميا تجريبيا واحدا على أن هذا سينجح في دعم النمو الاقتصادي. وجود وزارة أو وجود عشر وزارات لن يقدم أو يؤخر في الأمر شيئا. فإذا كانت سوق الاتصالات مربحة فعلا والذهب الخالص تحت إدراج تلك المحال فلماذا لم يذهب إليها شبابنا طوعا، إذا كانت السوق كبيرة بما يكفي للجميع فلماذا لم يجد المواطن فيها موضع قدم؟
إذا كنا نريد توطين سوق الاتصالات وبيع الجوالات فلا بد أن نعالج الموضوع بطريقة اقتصادية بحتة، أو على الأقل ندرسه بهذه الطريقة. نجيب عن الأسئلة السهلة، هل توطين سوق محال الجوالات سيغير من واقعنا الاقتصادي شيئا وكيف؟ لماذا لم يذهب شبابنا طوعا إلى هذه السوق ويضع كل شاب كتفه بجانب الآخر سدا منيعا أمام دخول العمال الأجانب؟ ما العوائق التي تقف أمام شبابنا للدخول في هذه السوق؟ هل نريد توظيف الشباب أم خلق فرص في السوق لريادة الأعمال؟ وإذا كنا نريد أن نصنع موظفا فمن سيكون رب العمل؟ وإذا كنا نريد أربابا للعمل فلماذا نتحدث عن السعودة الشاملة؟ هل نبحث عن تاجر أم مهني أم صاحب مصنع؟ ورغم بساطة هذه الأسئلة فلا يمكن لأحد أن يجيب عنها، حتى نعرف ما هو هيكل سوق الاتصالات كاملا، بدءا من تصنيع هذه الأجهزة في دول المنشأ، وحتى البيع النهائي للمستهلك. وبمعنى آخر فلا بد من معرفة هيكل السوق في كل مرحلة من مراحل سلسلة القيمة. من يبيع ومن يشتري، ما سلوك البائع والمشتري، ما الدول المسيطرة على الإنتاج والبيع لنا، ومن هم المسيطرون هناك في دول المنشأ، وكيف يعرفهم المستوردون هنا؟ هل نحن ننقل إلى أسواقنا عوائد الاحتكار التي في بلاد الآخرين؟ ثم يجب أن نعرف هل هناك احتكار في التوريد والتخزين، وهل مثل ذلك في البيع بالجملة أو البيع عند التجزئة؟ هل من الأجدى أن ننقل التقنية إلى بلادنا، وننشئ الشركات المساهمة العملاقة بأيدي أبنائنا وبناتنا، أم الأفضل لنا أن نعمل في أسواق ما بعد البيع وخدمات البرمجة والصيانة وصناعة قطع الغيار؟ وأخيرا هل نريد سعودة كل هذه المراحل أم سنكتفي بمحل متر في متر في سوق الجوالات في البطحاء، ليحصل السعودي على عوائد أخرى سلسة القيمة؟ هل وجود العمالة الأجنبية هناك في تلك المرحلة النهائية مضر أم هو ضروري في مرحلة أخرى سابقة؟ القضية شائكة والقرار لم يوضح كل هذه التفاصيل العميقة.
ما زلت أعتبر العمالة الأجنبية جزءا من الحل وليست من صنع المشكلة، فمن المدهش جدا أن تعلم أن اللاجئين في أوروبا هذه الأيام كانوا سببا في زيادة النمو الاقتصادي. العمال خير ومهمون من كل جنس ولون، لكن الاقتصاد الذكي هو الذي يعرف أين ومتى يتم إقحام العمال، ومتى وأين وكيف يتم إيقاف تدفقهم. عندما انهار الاتحاد السوفياتي وتفتتت دول شرق أوروبا، تدفق ملايين من العمال نحو ألمانيا الغربية، تحملت ألمانيا وحدها وزر انهيار سور برلين، فبنت المصانع وأنشأت الاتحاد الأوروبي وأغلقت الأسواق، وبعد عقدين من الزمان ها هي ألمانيا تقف بعمالها من كل العالم على سقف العالم الأوروبي والاقتصادي، لتفرض شروطها بقوة على الجميع وتشتكي اليوم من نقص العمال الكافي لتبقى في عرشها. العمال خير إذا عرفنا كيف ندير أوراق اللعبة، ولا نمو اقتصاديا بلا عمال.
نعم يثيرنا جدا وجود عمالة ضخمة في شوارعنا، لكن قبل أن نغضب من ذلك علينا أن نسأل كل شاب سعودي يقف أمام مدير أجنبي في شركة لتوظيفه لماذا تقف هنا وتترك سوق الخضار؟ هناك أبراج ضخمة تقبع فوق محال الجوالات، وبينما يشتري شبابنا من محل جوال فيه أجنبي، ينظرون بحسرة إلى سيارة فارهة تغلق الطريق أمام المحل ويترجل منها أجنبي آخر، لكن قبل أن نغضب من هؤلاء الشباب ونغلق محل الجوال، نريد فقط أن نعرف كم عدد السعوديين العاملين في تلك الأبراج والذين لكل سيارة وموقف مماثلان. وقبل أن نفرض سعودة محل الجوال أو سوق الخضار يجب أن نسأل بصدق: هل دخله سيغطي بحال معيشة أسرة سعودية من ثلاثة أشخاص في شقة صغيرة إيجارها السنوي 20 ألفا، وعليهم ألا يروا آباءهم من الفجر حتى الفجر. نعم قد يفي المحل باحتياجات عامل أجنبي وحيد يستأجر سريرا في المحل نفسه، ليرسل كل جهده إلى أسرته شرق البحار، لأسأل بصدق مرة أخرى عن حجم العوائد الناتجة على الاقتصاد والأسعار إذا تم استبعاد عامل أجنبي أجره ألف ريال بعامل سعودي أجره أربعة آلاف ريال، بينما ينظر إليهم جميعا من فوق البرج موظف أجنبي راتبه 40 ألف دولار، لن يغير موقف سيارته مهما سعودنا المحال من أمامه.