المزايا النسبية في تجربة مكة الزراعية

لم تستطع الحلول الاقتصادية التي أتت بها الثورة الصناعية تجاوز الزراعة كأصل في إنتاج القيمة، كذا لم يستطع عصر ثورة التكنولوجيا والاتصالات تحقيق ذلك التجاوز حتى الآن، فمهما تقدمت بنا التكنولوجيا فسنظل في حاجة إلى الغذاء. لهذا فإن الزراعة عمود أساس في بناء الاقتصاد، ولا يمكن تناسيها بحال، وستظل الأم التي تستطيع أن تصنع غذاءها قادرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية، كما ثبت - بلا أدنى شك وفي العصور البيولوجية للأرض - أن الكائنات التي صمدت أمام موجات التغير المناخي هي وحدها التي كانت قادرة على صناعة غذائها بنفسها، أو كانت تحصل عليه ببساطة. الزراعة ستظل أيقونة بقاء الأمم وصمود الحضارات، وستظل العامل المشترك في النمو والرخاء الاقتصادي في أي حقبة زمنية. ولعلنا تعملنا منذ توحيد المملكة، ومن خلال التجربة والخطأ في العقود الماضية مع تكرار محاولاتنا الزراعية، أن خيار الزراعة لا مفر منه، خاصة بعدما واجهنا مع العالم مشكلة ارتفاع أسعار الغذاء في العقد الماضي، وما خلفه ذلك من مصائب عالمية، وأيضا ثبت لدينا أن بقاء خياراتنا الزراعية في أيدي الآخرين يعد خللا أمنيا يجب أن نناضل من أجل إصلاحه. وبرغم أننا ما زلنا نختبر خياراتنا الزراعية، ومن ذلك تجربة الاستثمار في الشركات الزراعية الكبرى خارج الحدود، فإن تجربتنا الزراعية الداخلية والجديدة تستحق الإشادة حتى الآن، وهذه ورش عمل التنمية الزراعية في منطقة مكة المكرمة التي افتتحها الأمير خالد الفيصل خطوة في طريق طويل نحتاج معها إلى الكثير من أمثالها، حتى نقيم تجاربنا، ونكشف المزايا النسبية التي تتمتع بها مناطق المملكة في هذا المجال.
فخلال الورشة تبين إلى أي درجة تتمتع منطقة مكة المكرمة بالتنوع البيئي الذي يتيح عددا من الفرص الاستثمارية للمزارعين والمستثمرين، مع دعم تشجيعي تقدمه الدولة، وافتتاح الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ومستشار خادم الحرمين الشريفين هذه الورشة رسالة واضحة الدلالة على هذا التوجه والدعم. ومع مثل هذا الدعم ستحظى مدن ومحافظات منطقة مكة المكرمة بفرصة سانحة يجب أن تحسن استغلالها لإظهار ملكاتها الخاصة في مجال الزراعة والاستزراع المائي، خاصة أن مدن المنطقة تقع على سواحل ممتدة على طول البحر الأحمر. ليس هذه الميزة الوحيدة هناك، بل إن تجربة مكة الزراعية حتى الآن تقدم نماذج جديدة مختلفة تماما عن تلك التي خضناها حتى الآن مع تجربة زراعة القمح أو الأعلاف التي اضمحلت تماما مع غلبة تهديدات الخوف من نقص المياه الجوفية. فمكة المكرمة تقدم تجربة جيدة تستحق الدعم، وقد استندت فيها إلى ميزاتها التنافسية وتنوعها البيئي، ظهرت في إقامة مشاريع الدواجن اللاحم والبياض التي أصبحت تسهم بـ40 في المائة من إنتاج المملكة في هذا المجال، وتبلغ مشاريع الدواجن 98 مشروعا، ليس هذا فحسب، بل إن المنطقة معروفة بمنتجات أخرى مميزة مثل العنب والرمان الطائفي وأصناف من النخيل، وكذلك الورد الطائفي الذي اكتسب عطره وماؤه شهرة إقليمية وعالمية، كما أن منطقة مكة المكرمة تضم ما يقارب 77 ألف حيازة زراعية على مساحة مقدارها 1.2 مليون دونم تقريبا، منها 57 ألفا حيازة نباتية لإنتاج مختلف المحاصيل من أنواع الحبوب والأعلاف والخضراوات والفواكه، وتقدر الثروة الحيوانية بـ 1.2 مليون رأس من الضأن، ونحو 500 ألف رأس من الماعز، و31 ألف رأس من الإبل، وعشرة آلاف رأس من الأبقار تقريبا، وهناك 5300 خلية نحل.
كل هذه الأرقام تقدم نموذجا لما يمكن أن يقدمه التنوع الزراعي، خاصة إذا استند إلى مقومات طبيعية في المنطقة وليست مصطنعة. اكتشافنا المزايا النسبية هو مفتاح الحل في تنوعنا الاقتصادي الضروري، وإذا كنا نرى في الصناعة وتنمية القطاع الخاص الصناعي حلا لمشكلة اعتمادنا على النفط، فإن الزراعة والميزات النسبية فيها تقدم نموذجا اقتصاديا خاصا بها، وهي تعمل بشكل رائع حتى الآن مع اكتشافنا التنوع البيئي لكل منطقة، وجدير بالذكر أن نشير إلى أن ورشة العمل التي أقامتها وزارة الزراعة في منطقة مكة قدمت نموذجا زراعيا تنمويا جديدا مع تدشين مبنى الثروة السمكية، ومبنى جمعية الصيادين في مدينة القنفذة، الذي تبلغ طاقته الاستيعابية 400 مركب صيد صغير، و60 مركب صيد كبيرا و20 مركبا للنزهة، بتكلفة إجمالية 85 مليون ريال، مع ما ستقدمه كل هذه التجربة من وظائف أساسية وداعمة، ووظائف صناعية، ووظائف تشغيل وصيانة. ما نحتاج إليه اليوم بشكل عاجل هو إعادة هيكلة كليات الزراعة، وإحياء فكر الاقتصاد الزراعي، وتحفيز الكتابة والتأليف في هذا المجال، ودعم ذلك بسرعة وبقوة. هذه الحلقة ما زالت أضعف حلقات تجربتنا الزراعية الحالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي