رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التستر التجاري .. من أخطر الآفات الاقتصادية «2 من 2»

أستكمل ما بدأت الحديث عنه بخصوص التستر التجاري، بصفته القلب النابض لاقتصاد الظل المتغلغل في اقتصادنا الوطني، بعد أن تم تحديد أكثر تركزاته في الأنشطة الاقتصادية المحلية، وتقدير حجمه الذي فاق بنهاية العام الماضي سقف 530 مليار ريال (نحو 22 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وأعلى من 30 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي).
يتركز الحديث هنا حول بعض الحلول الداعمة لجهود محاربة التستر التجاري والقضاء عليه، وتخليص مقدرات البلاد والعباد من آثاره الفادحة الخسائر، والوصول بهذه الجهود إلى منطقة جني ثمارها الحقيقية، يفترض أن تنعكس إيجابا على النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة المستدامة، وأن تترجم برفع ملموس لمستوى دخل الفرد السعودي، وأن يتحقق في ضوئها انفتاح الآفاق الاستثمارية المثلى أمام رأس المال الوطني، وتحديدا المنشآت الصغيرة والمتوسطة، التي تعد هي الضحية الكبرى في الوقت الراهن لتفشي داء التستر التجاري. كما يؤمل أن تتوافر تحت مظلة تلك الحلول المقترحة المزيد من فرص العمل الكريمة للمواطن والمواطنة، وعدا ذلك من النتائج غير المجدية؛ فلا أقل من القول عنها إنها كانت مجرد هدر للجهد والمال والوقت! إذ لا بد أن نشهد تغييرا ملموسا على واقع البيئة الاقتصادية والاستثمارية المحلية، تنعكس نتائجه الحقيقية عليها، ونرى انحسارا للأنشطة المخالفة المشكلة لخطر التستر التجاري، يقابله انفراج للمواطن والمواطنة سواء المستثمرين منهم أو الباحثين عن فرص عمل كريمة.
لا شك أن الحلول الممكنة والمتاحة كثيرة جدا، على الرغم من صعوبة المشكلة التي وصلنا إليها تحت اتساع وتفاقم أنشطة التستر التجاري، بمعنى أننا يجب ألا نتوقف عند نقطة بداية تلك الحلول، فلابد أن تستمر وتتوسع تغطيتها وقوتها النافذة، وصولا إلى المرحلة التي تتيح للاقتصاد الوطني ومقدراته الخلاص النهائي من استيطان هذا الداء الفتاك، هذا من جانب. ومن جانب آخر؛ ضرورة أخذ تلك الحلول في اعتبارها المواطن والمواطنة كشريك رئيس في جهود الحل كافة، كونه النقطة الرئيسة التي يبدأ منها التستر التجاري وإليها تنتهي، وكونه الضحية الأكبر لاستشراء هذا الداء الفتاك اقتصاديا وماليا. فلا بد من قيام الأجهزة الحكومية المعنية بهذا الملف بالبحث في الأسباب التي دعت المواطن أو المواطنة للخضوع والاستسلام للوافد المتستر عليه، والعمل على رصدها وحصرها ومن ثم الانطلاق باتجاه معالجتها، فقد تكون استغلالا لعجز المواطن أو حاجته إلى المال، وقد تكون لعدم قدرته على اضطلاعه بنفسه بممارسة النشاط كله، إما لقوة المنافسة في السوق وإما لتكتل بقية المؤسسات المتورطة في التستر التجاري ضده ومحاربته، أو لأي سبب كان.
لعل من أهم مقترحات الحلول المأمول تبنيها من قبل وزارة التجارة والصناعة وبقية الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، ما يلي من حلول: أولا: التعاون مع مؤسسة النقد العربي السعودي، والعمل على تصميم أنظمة تتولى مراقبة حركة الحسابات المصرفية للمنشآت التجارية والصناعية، وتتركز على حسابات "المنشأة، الكفيل، العامل المكفول". وهذه يمكن تحقيقها في وقت وجيز جدا لتوافر الإمكانات والبنية لدى مؤسسة النقد، كما أنها لا تتطلب تحمل تكاليف مالية باهظة، وهو ما يشبه الأنظمة المصرفية التي تراقب حسابات العمالة في القطاع الخاص "مراقبة الأجور"، والرقابة على حسابات المستفيدين من نظام حافز. إن اتخاذ مثل هذه الخطوة كفيل بالكشف والقضاء على أغلب كوارث التستر التجاري إن لم يكن كلها، وتعد أمرا له مشروعيته الكاملة ما دام أنه يتوافق مع مواد نظام مكافحة التستر ولائحته التنفيذية.
فمن خلال بناء وتصميم هذه الأنظمة الرقابية، ستتمكن وزارة التجارة والصناعة من السيطرة التامة على نشاطات الأسواق التجارية والصناعية المحلية. كما أنها ستتمكن من تسهيل مهام جولاتها التفتيشية الميدانية فيما يختص بالمنشآت، التي قد تلجأ إلى الاحتيال على الأنظمة المصرفية، عبر تحويل تعاملاتها التجارية ودفع وتسلم النقدية خارج النظام المصرفي (تعاملات بالكاش)، وهذا احتمال وارد حدوثه دون أدنى شك للهروب من مقصلة الرقابة، لكنه عبر مراقبة حركة الحسابات المصرفية الراكدة، سيسهل كثيرا التعرف على أوكارها خارج الرقابة المصرفية، عبر تتبع ومراقبة نشاطاتها بصورة ميدانية.
ثانيا: قد يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير مرة أخرى في جدوى استمرار نظام الكفالة المعمول به في الوقت الراهن، وضرورة البحث من جديد في صيغة تعاقدية أخرى بديلة بين رب العمل والعامل المستقدم، تنزع تماما التشوهات وعمليات المتاجرة المحمومة في تأشيرات العمالة الوافدة، فكما أثبتت التجربة الطويلة الماضية، أن هذا النظام العتيد لم تنتج عنه إلا زيادة في الاستقدام على حساب توطين العمالة، كما نتج عنه عدم تكافؤ فرص الحصول على تأشيرات العمالة الوافدة بين المنشآت التي هي فعلا بحاجة إلى تلك التأشيرات، وغيرها من المنشآت أو الأشخاص الذي تحول معه أمر استخراج تأشيرات عمل إلى نشاط تجاري مربح بحد ذاته! وقد يتذرع البعض بأن هذا قد ينتج عنه انخفاض في إيرادات الخزانة العامة نظير إلغاء نظام الكفالات، إلا أنه في المقابل للرد على هذه المقولة سيؤدي إلى حماية مقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع من الفوضى وسوء الاستغلال والمظاهر الراهنة للتستر التجاري، التي تتجاوز تكاليفها الباهظة أكثر من 20 ضعف تلك الإيرادات السنوية لإصدار وتجديد تلك التأشيرات.
ثالثا: أتمنى على وزارة التجارة والصناعة عقد ورشة عمل أخرى حول هذا الملف الشائك "عقدت وزارة التجارة ورشتها الأولى مطلع 2011 حول الملف نفسه، ونتج عنها أغلب ما نشاهده اليوم من نتائج ملموسة وناجحة"، ودعوة العديد من ذوي العلاقة به من مختلف الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص والمهتمين والمختصين، للبحث والنقاش المستفيض في هذا الشأن، وطرح ما يمكن تطبيقه من حلول ومقترحات تدعم عمل الوزارة. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي