هل أنت مستشار قانوني أم اقتصادي؟
من السهل أن يكون هناك خلط أو سوء فهم من كثيرين لماهية "طبيعة" كل من علم الاقتصاد والقانون. وينبغي ألا يفهم من ذلك الحصر، إذ يتكرر سوء الفهم أيضا مع علوم أخرى كالفقه وإدارة الأعمال. لكن النقاش هنا محصور على القانون والاقتصاد.
ومصدر الإشكال – كما أراه - لدى أولئك الكثيرين هو رؤيتهم لكثير من الموضوعات والقضايا تدرس وتناقش في كلا التخصصين، مقرونة بجهل ماهية ومنهجية البحث في كل تخصص. لن أجد صعوبة في ضرب الأمثلة بالموضوعات التي يدخلها سوء الفهم، لأنها كثيرة، مثل الأسهم ورأس المال والتكتل التجاري والاحتكار والتسعير والتلوث والتدخل الحكومي والخصخصة والأجور والضرائب والرسوم. ويتجلى الخلط واضحا في وسائل الإعلام، فمثلا، يحدث أحيانا أن توجه في وسائل وقنوات الإعلام أسئلة إلى قانوني، بينما يفترض أن توجه إلى اقتصادي، والعكس صحيح كذلك.
هناك مصدر للإشكال، وهو وجود مقررات دراسية، وكتب علمية تحمل أسماء متشابهة، وأحيانا متماثلة، ولذا قد تختلط الأمور عند البعض. مثلا كلمة مالية عامة. هناك كتب تحمل عنوان المالية العامة، ومؤلفوها من تخصصات مختلفة "مثلا إدارة عامة أو محاسبة أو اقتصاد أو شريعة أو قانون". ولكن المنهج والمادة والمحتوى في كل كتاب تختلف عما في الكتاب الآخر، وهو خلاف ليس بسبب التعارض في وجهات النظر الموجودة في عامة التخصصات. وإنما بسبب أن التخصص مختلف كليا.
وزيادة في التوضيح، الاسم حقيقة فيه اختصار أو قل بتعبير أدق حذف، إذ مسمى المادة الكامل في قسم الاقتصاد هو "اقتصاد المالية العامة" وفي قسم أو تخصص القانون هو "قانون المالية العامة" وفي المحاسبة محاسبة المالية العامة أي المحاسبة الحكومية وهكذا. في كل تخصص طبيعة البحث والنقاش تختلف اختلافا بينا، بما يعكس طبيعة التخصص. وعلى هذا، فالمتخصص في قانون المالية العامة لا ينبغي له تدريس اقتصاد المالية العامة، والعكس صحيح.
من المؤسف أو الطريف، لا أدري أيهما أنسب، أن أذكر واقعة عاصرتها بنفسي في أحد أقسام الاقتصاد الأكاديمية في إحدى جامعاتنا، إذ تولى تدريس مادة المالية العامة في قسم الاقتصاد "أي مادة اقتصاد المالية العامة" حقوقي حاصل على الدكتوراه في القانون، تخصص المالية العامة "أي قانون المالية العامة أو القانون المالي، كما تسمى في بعض كتب القانون"، وقد عرفت أن السبب هو أن اللجنة التي تعاقدت معه من بلده بتكليف من الجامعة السعودية، ليس فيها متخصص لا في اقتصاد المالية العامة، ولا في أي حقل تخصص اقتصادي آخر. كما تبين لي في حديث دار بيني وبين هذا الأستاذ أنه لا يعرف أن المالية العامة تدرس في أقسام الاقتصاد، من وجهة اقتصادية وليست قانونية، وأن من يقوم بتدريسها اقتصادي وليس قانونيا، وأن الجامع بينها وبين المالية العامة القانونية أسماء بعض الموضوعات.
مثال آخر "ليس من القانون" الزكاة. كان في القسم الذي أتكلم عنه مقرر اقتصادات الزكاة، ولكن كان يدرسها أستاذ محاسبة، وبالطبع فهو يدرسها على أنها محاسبة الزكاة.
وبالمناسبة فقد تفرع من سوء الفهم هذا، في نظري، وجود سوء فهم أو اختلاف فهم - أحيانا جوهري - لمعنى وموضوع الاقتصاد الإسلامي، ولكن هذا ليس موضوع هذه المقالة.
النظام "أي القانون" يعنى بوضع قواعد للسلوك. ففي قانون المالية العامة، هذا يعني على سبيل المثال، تدرس القوانين الحاكمة لميزانية الدولة، وتوزيع الصلاحيات، واستحقاق التعيين والترقيات والشراء والعقود المالية وهكذا.
أما علم الاقتصاد فهو لا يعنى أساسا بوضع قواعد للسلوك، ولو فعل لكان لغوا، لأنه تكرار للقانون بمسمى آخر، وإنما يعنى بالدرجة الأولى بتفسير وتحليل السلوك الاقتصادي بصورة حيادية. وكلمة حيادية مهمة، لأن التسويق، وهو تخصص من تخصصات الأعمال، يهتم بتفسير السلوك الاقتصادي للمستهلك بهدف رفع المبيعات.
تبعا لدراسة السلوك الاقتصادي، يبحث علم الاقتصاد في تكاليف ومنافع تحسين أنماط توزيع الموارد، سواء الآن أو في المستقبل. كما ويدخل في أو يتفرع من دراسة وتفسير السلوك الاقتصادي دراسة متغيرات ناشئة من ذلك السلوك مثل الأسعار والنمو "طبعا الاقتصادي وليس الإنساني مثلا"، والركود والبطالة والنقود... إلخ. وبما أن السلوك الاقتصادي للبشر تشكل من عدة عوامل منها القانون، فإنه يفهم من هذا أن علاقة علم الاقتصاد بالقانون تتركز على مساهمة الاقتصاد في فهم الأثر والتأثير الاقتصادي للأنظمة الموضوعة أو المقترح وضعها.