عودة إلى تقرير ماكنزي
بعد أن هدأت عاصفة تقرير ماكنزي حول مستقبل الاقتصاد السعودي، نود أن نشير إلى أن الدراسة التي قامت مؤسسة ماكنزي بإعدادها والتوصيات التي تضمنتها لم تتطرق بالتفصيل إلى أسباب فشل مخططاتنا السابقة، وهو أمر مهم. فمن يضمن أن هذه التوصيات لن يصيبها ما أصاب سابقاتها، إذا لم يعالج الأمر من أساسه؟ ويظهر من مضمون التقرير، الذي اكتسب كثيرا من التعليقات التي تفضل بها عدد كبير من الكتاب والمحللين أنه ركز في صلبه وفي مضمونه على حجم المال المطلوب لإيجاد بيئة استثمارية قوية على أمل أنها تؤدي إلى بناء صناعة قوية توفر سلعا قابلة للتصدير والبيع بقيمة مضافة. عملوا افتراضات نظرية للحجم المالي المطلوب دون التركيز على إمكانية إيجاد جيل جديد من ملايين الشباب يتمتع بالمهارات وتنوع المهنية وقبول العمل الميداني. كل ذلك في خلال 15 عاما. ونحن في الواقع في حاجة إلى ما لا يقل عن 30 عاما من التخطيط والعمل الشاق حتى نجهز أنفسنا ونغير طبيعة سلوكنا. أما بالنسبة لـ"ماكنزي" فقد انتهت مهمتهم عند هذا الحد من الكلام المباح. الطريق إلى تحقيق هدف التنويع شاق ومليء بالعقبات الكأداء. فلو كان الموضوع هكذا قضية، لكنا قد توصلنا إلى مدخل يؤدي بنا صوب بناء قاعدة صناعية تؤمن لنا نوعا من الدخل المستديم منذ أمد بعيد. ولكن كيف ذلك ونحن لم ندرس بشفافية مطلقة معوقات مخططاتنا؟ ناهيك عن تواضع استثمار الأيدي الوطنية المدربة، لمصلحة فتح الأبواب لاستقدام الملايين من العمالة الوافدة التي ينهك وجودها الاقتصاد الوطني.
مؤسسة ماكنزي، في تقريرها آنف الذكر، لم تذكر كيف نبدأ تغيير جوانب مهمة من حياتنا ومن عاداتنا وتراثنا لنصبح أمة تعشق العمل والإنتاج وتنظر إلى المستقبل على أنه الحياة أو الموت بالنسبة لها ولأجيالها. فلم يكن ينقصنا المال عندما خططنا، فقد كانت الفوائض المالية متوافرة خلال السنوات القليلة الماضية. ولم نستغل استثمارها في مجال مشاريع تنموية تضيف إلى اقتصادنا دخلا كنواة لبرنامج حيوي مستقبلي. لماذا؟ لأننا لم نكن مستعدين لتغيير نمط حياتنا من شعوب جبِلت على عدم الإنتاجية وتعتمد على مجهود الأجنبي في معظم شؤون حياتها إلى أمة تطمح إلى إيجاد بيئة اجتماعية جديدة تؤهلها لأن تكون مجتمعا منتجا. من وجهة نظر أخرى، فإن النشاط الاستثماري والبنى التحتية لأي اقتصاد ناجح لا بد أن ترتكز على أسس متينة قوامها القطاع الخاص. وهذه تكاد تكون مفقودة في بلدان الخليج. فالدولة وحدها التي تصرف على معظم المشاريع، مباشرة من دخل البترول. والنشاط المحدود المرتبط بالقطاع الخاص أغلبه من شركات عائلية، أو تسيطر عليه فئات قليلة من أفراد المجتمع. ولذلك تجد تأثيرها محدودا ولا تميل إلى بذل مجهود كبير لتوظيف وتدريب وتأهيل المواطن. ناهيك عن منح المواطن مرتبا يتناسب مع مستوى المعيشة في البلاد، وهو أمر جوهري لضمان نجاح إشراك المواطن في التنمية. وتوسيع قاعدة القطاع الخاص أمر في غاية الأهمية كجزء من العملية التطويرية المطلوبة. هذا أيضا وجه من الوجوه التي لم يأت عليها تقرير ماكنزي، رغم أهميته.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هو كيف نوجد اقتصادا محليا قويا تنافسيا يستطيع تحمل عبء نقل المجتمع من مستهلك إلى منتج، وقادر على الوقوف بذاته دون أن يكون متكئا على المصادر البترولية؟ المسألة ليست مجرد اختزال للزمن، كما صورها تقرير ماكنزي، ونحن لا نزال نراود مكاننا بصرف النظر عما هو متوافر بين أيدينا من المال الحر. ماذا نعمل بالمال إذا لم نكن قد اخترنا خريطة طريق؟ يقولون إن لدينا أكثر من 1000 مؤسسة صناعية وإنتاجية. وعلى الرغم من عدم وجود ما يدل على أن لهذه المؤسسات دورا إيجابيا في إضافة دخل يسهم في تخفيض الاعتماد على البترول، إلا أننا نستطيع غربلتها واختيار ما يمكن أن يكون نواة طيبة لمشاريع المستقبل. ولنبدأ أولا بتحويل الأيدي العاملة فيها إلى الوطنية المدربة وتحسين الأداء لتكون نموذجا مقبولا. وقد لا يعلم كثيرون أن صناعة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح هما من أفضل مصادر تنويع الدخل، لو استثمرنا فيهما قدرة المواطن. وليس هناك أي مبرر يجعلنا لا نفكر في إقامة مشاريع الطاقة المتجددة التي كنا منذ عشرات السنين نحلم بوجودها على أرضنا، ونحن الأحوج لها من بين دول العالم. فهي الوحيدة التي ستوفر لنا إحراق كميات كبيرة من المشتقات البترولية القابلة للتصدير. والكل يعلم أن تكاليف توفير الطاقة المتجددة قد وصلت إلى مستوى ينافس جميع المصادر الأخرى، دون أي مبالغة. وصناعتها بسيطة وغير معقدة وقابلة للتطوير المستمر. ومن المتيسر تدريب شبابنا على جميل مراحل إنتاجها وأعمالها. وفوائدها الجانبية لا حصر لها، ولعل أهمها أنها طاقة نظيفة تحسب لمصلحة المهتمين بالبيئة ومستقبل حالة تلوث الغلاف الجوي. وختاما، ركزوا على تنمية مواهب وقدرات شباب هذه الأمة وافتحوا لهم مجال الأعمال الميدانية، وسيكون عندنا -بإذن الله- رصيدا من الأمل بعد البترول.