رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


منظومة التفكير بين طرفين

طلب رجل وليكن "شهريار" الزواج من فتاة ولتكن "شهرزاد"، لكنها لم تكن تريده، ولم تكن في الوقت ذاته تستطيع رفضه رفضا علنيا قاطعا، لأن البيئة المحيطة لا تستوعب مثل هذا الرفض الفج لمثل هذا الرجل المهم. أدرك شهريار ذلك، فأرسل وسيطا يقترح حلا، يبدو وسطا، يمكن أن يحرج به شهرزاد. ويقضي هذا الحل بأن يقوم الوسيط بإعداد ورقتين سريتين، في إحداهما "الموافقة"، وفي الأخرى "الرفض"، على أن تقوم شهرزاد بسحب إحداهما أمام شهود من وجهاء المجتمع. فإن سحبت الموافقة كان عليها الزواج من شهريار، وإن سحبت الرفض، كان على شهريار سحب طلب الزواج، لتحقق بذلك شهرزاد ما تريد.
أوحى ذكاء الإحساس لشهرزاد أن في الأمر مكيدة، فأرسلت من يتحرى الأمر، وعلمت أن الوسيط قام، بناء على تعليمات شهريار، بإعداد الورقتين وفي كل منهما الموافقة، حيث يكون على شهرزاد أن تقبل الزواج أمام وجهاء المجتمع سواء سحبت هذه الورقة أو تلك، ليحقق شهريار بذلك ما يريد. وفي الوقت المحدد حضرت شهرزاد، وعلى الملأ سحبت إحدى الورقتين وابتلعتها على الفور، لذا كان على الجميع الآن النظر إلى الورقة المتبقية التي كانت تحتوي بالطبع على الموافقة. والاستنتاج هنا في العلن وأمام وجهاء المجتمع أن الورقة التي سحبتها شهرزاد كانت الرفض، وبالتالي، فإن على شهريار أن يتراجع، وأن تكون النتيجة في مصلحة رغبة شهرزاد.
طرح مختص التفكير "إدوارد دو بونو" ما يشبه هذه القصة في كتابه "التفكير الجانبي Lateral Thinking" الصادر في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، كمثال على التفكير في القضايا من مختلف جوانبها، وليس فقط من خلال المنطق المباشر الذي كان سيفرض على شهرزاد القبول، سواء سحبت هذه الورقة أو تلك. وسوف نستخدم في هذا المقال هذه القصة لتوضيح التصور الذي وضعناه "لمنظومة التفكير" في المقال السابق، ليشمل هذا التوضيح حالة منظومة شهرزاد وحالة منظومة شهريار، وتداعيات عمل المنظومتين، في إطار القضية المطروحة.
يرى تصور "المنظومة العامة للتفكير" المعطى في المقال السابق أن لهذه المنظومة "ثلاثة مكونات رئيسة" متداخلة ومتكاملة؛ وأن لها "مدخلات" تتمثل في المسألة المطروحة، بما في ذلك المعلومات المرتبطة بها؛ وأنها تعمل في إطار "بيئة" محيطة، لها شروط ومتطلبات تؤثر في المنظومة وتتأثر بها. أول المكونات الرئيسة الثلاثة للمنظومة هو "منطلقاتها" التي تتضمن المبادئ والتوجهات العامة وروح المسؤولية، إضافة إلى الأهداف والتطلعات الخاصة بالمسألة المطروحة. وثاني هذه المكونات هو "رؤية" المنظومة لمشهد المسألة، الذي يفترض أن تعطي نظرة تحليلية شاملة واسعة المدى، وتشمل زوايا مختلفة. أما ثالث المكونات فهو مكون "معالجة المسألة" الذي يركز على تحديد العمل المطلوب تنفيذه بناء على المنطلقات، وعلى الرؤية.
إذا نظرنا إلى "البيئة" المحيطة بمنظومتي تفكير شهريار وشهرزاد نرى أنها بيئة، تبدو محايدة، تؤيد التوافق وتوثق الاتفاقيات بين الأطراف، وتحسم النتائج التي تظهر أمام الملأ ووجهاء المجتمع، ولا يستطيع أي طرف أن يتحدى هذه النتائج. لكننا نرى أيضا أن مكانة شهريار تسمح له بالتأثير في هذه البيئة، ولكن ليس بشكل يخالف مبادئ التوافق والاتفاق على الملأ.
وإذا نظرنا إلى "منظومة شهريار" نرى أن في "منطلقاتها" مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، لأن صاحبها مستعد للمكيدة من أجل تحقيق ما يريد؛ كما نرى أيضا أن الهدف الذي يسعى إليه هو الزواج من شهرزاد. وفي "رؤية" منظومته لمشهد المسألة، نرى أنه يعلم برفض شهرزاد لهذا الزواج، لكنه يجد أن مكانته تسمح له بأن يفاوضها في الأمر، وأن يضع أمامها حلا وسطا يحرجها به أمام وجهاء المجتمع. وفي "معالجته" للمسألة يضع الحل الذي يحقق له هدفه، حتى إن كان مكيدة تؤدي إلى إجبار الطرف الآخر، أمام المجتمع، على أمر لا يريده.
وإذا نظرنا إلى "منظومة شهرزاد"، لا نرى مبدأ محددا في "منطلقاتها" سوى الالتزام بالبيئة، لكننا نرى أن هدفها هو عدم الزواج من شهريار. ومع ذلك فقد اضطرت في معطيات "المسألة" إلى قبول الحل الوسط، تحت وطأة مكانة شهريار. وفي "رؤية" منظومة شهرزاد لمشهد المسألة نجد ميزتين رئيستين تستحقان الاهتمام.
ترتبط الميزة الأولى بذكاء الإحساس أو "الذكاء العاطفي" الذي تحدثنا عنه في مقال سابق، فقد قادها هذا الذكاء إلى الشك في نيات شهريار وعدم إخلاصه في طرحه للحل الوسط. أما الميزة الثانية فتتعلق برؤيتها لمشهد الحالة ليس فقط بشكل مباشر، بل من "جوانب أخرى" أيضا، بينها الجانب الخاص بالتركيز على الورقة المتبقية وليس على الورقة المسحوبة. الميزة الأولى مكنت شهرزاد، في "معالجتها" للمسألة، من كشف مكيدة شهريار؛ والميزة الثانية مكنتها من إجهاض هذه المكيدة، بل استغلالها لمصلحتها في حسم النتيجة.
لعل في طرحنا للقصة السابقة وتحليلنا لمنظومة التفكير لدى طرفيها فوائد مهمة للمستقبل يمكن النظر إليها من محورين رئيسين: محور تطوير منظومتنا الذاتية؛ ومحور تحليل وفهم عقليات الآخرين. في إطار المحور الأول، دعونا في المقال السابق إلى تطوير منظومتنا الذاتية. ورأينا ضرورة الاهتمام بتطوير "منطلقاتنا" العامة والخاصة؛ وتوسيع نطاق "رؤيتنا" للمسائل المطروحة، وتعميقها أيضا؛ إضافة إلى تحسين "معالجتنا" لهذه المسائل، بما يحقق الكفاءة والفاعلية ويعزز قدراتنا التنافسية التي توفر لنا مكانة متميزة في عالم اليوم.
في إطار محور تحليل عقليات الآخرين، لا بد من الإشارة إلى أهمية هذا الأمر، خصوصا في هذا العصر، حيث باتت المنافسة مع الآخرين من جهة، وتبادل المنافع معهم من جهة أخرى سمة رئيسة من سماته. ويتطلب ذلك ليس فقط تطوير منظومتنا في التفكير، بل فهم منظومات الآخرين أيضا، سواء من ينافسوننا أو من يتعاونون معنا. نريد فهم "منطلقاتهم" العامة، و"منطلقاتهم" الخاصة في الأمور التي تهمنا؛ نريد استيعاب مدى اتساع وعمق "رؤيتهم" للأمور وقدرتهم على تحليلها؛ نريد إدراك كيفية "معالجتهم" للقضايا التي تواجههم والتعرف على معايير تقييم أداء هذه المعالجة ومدى تحقيقها للأهداف المنشودة. ونريد أيضا أن نفهم "بيئة العمل" التي يمكن أن "تفعل" الأعمال المختلفة وتحفزها، أو يمكن أن تعوقها وتحبطها. والأمل بعد ذلك أن نتوخى الحكمة لنعطي ونتميز ونصل بأمتنا إلى المكانة التي تستحق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي