لا ننسى الصناعة
في ظل انشغال الاقتصاد بانخفاض أسعار النفط والخدمات مثل السكن والمرور حتى البنية التحتية يبدو أن الاهتمام بالصناعة لم يأخذ الصدارة بعد. المسار الحقيقي للتقدم الاقتصادي يمر عن طريق الصناعة ولن يمر عن طريق التوسع في قطاع الخدمات أو مزيد من الإنشاءات حتى البنية التحتية خاصة إذا استمرت الضغوط المالية. لكل من هذه دور مهم في مرحلة معينة، ولكن الرهان عليهم ثم إعلان أرقام نمو اقتصادي لا يخدم تراكما رأسماليا ومعرفيا أو القدرات التنظيمية أو توظيف عميق للإنتاجية.
يبدو لي أن الاهتمام بالاستراتيجية الصناعية لم يعد كما كان، وكأن التجارة أخذت المقعد الأمامي. هناك أعراض لغياب البوصلة وهناك أسباب مؤسساتية. المواضيع التنموية على درجة من التعقيد، بحيث إن هناك تداخلا بين الأعراض والمسببات.
هناك أعراض كثيرة تدل على عدم توحيد الجهود الصناعية. هذه الأعراض تبدو متنوعة وغير مترابطة، ولكن ما يجمعها أكثر مما يفرقها إذا كان الهدف التقرب من تكوين استراتيجية صناعية، فمثلا ما زال التعليم يراهن على التعليم الجامعي على حساب التعليم الفني على الرغم من المصروفات العالية والحديث الذي لا ينقطع عن التعليم الفني. من المظاهر أيضا ضعف التزامن بين الصناعات التحويلية وبناء شبكة المترو العملاقة والتاريخية. مثال آخر في غياب برنامج التوازن من الرادار الصناعي. مثال أخير حقيقة أن المملكة أكبر بلد لتحلية المياه ولكن دون تميز تقني. كفى أمثلة. التذكير بالأعراض ضروري ولكن الأبعاد المؤسساتية أهم.
أعتقد أن الإسقاط الفكري لدينا أتى من الغرب أو "على الأحرى لم نقرأ بعناية التاريخ الاقتصادي الغربي" ولم يأت من تجربة دول آسيا حديثة التجارب والأقرب إلى التطبيقات العملية، فكل المتعلمين لدينا حصلوا على تعليمهم من مدارس ومؤسسات غربية، خاصة أن جودة التحصيل العلمي ليست عميقة بما يتناسب مع التحدي التنموي. السبب الآخر أننا قبلنا رسميا أو ضمنيا ما يسمى "إجماع واشنطن" الذي تبناه صندوق النقد الدولي ـــ يأخذ بنمط سياسات تبدأ بالانفتاح وتحرير الأنظمة والتخصيص، وليس لدي إشكالية بل لعلها أفضل من أن تكون بلدا صناعيا يعاني مشكلات هيكلية أو تعاظم دور الحكومة مثل تجربة دول أوروبا الشرقية. ولكن عندما تكون التنمية هي التحدي الأساسي، لابد للعلاج أن يكون مختلفا نوعيا. إجماع واشنطن يقود إلى الميزة النسبية في تصدير المواد الخام وعدم حماية أي صناعة وانتظار سياسة الانفتاح ولكنها لن توجد تصنيعا. بل بدا كأنه دعوة لكي تستفيد الدول المتقدمة من أسواقنا ونحن ننتظر. بل إن تجربة المملكة في تحقيق اختراق صناعي من خلال "سابك" وغيرها أتى بما يعاكس إجماع واشنطن. يصعب أن تجد بلدا تطور دون تركيز على الصناعة وحمايتها مع تحرير المنافسة الداخلية واستعداد الحكومة للدعم، ولكن مع دقة ورقابة في التنفيذ. أحد مظاهر التبسيط الفكرية القول إن الاقتصاديات الغربية تأخذ بالخدمات والمعلوماتية، ولكن هذا يحمل مهربا خادعا دون أرضية صناعية. كما أن هذا يختلف عن الارتقاء بالصناعات الخدمية مثل الصناعة المصرفية والسفر والتأمين والصحافة. الخلط بين هذا وذاك مطب فكري وخرق للمراحل دون تمحيص.
تجربة المملكة بدأت جيدة وحققت اختراقا ولكنها بدأت تركز على نواح أخرى أقل علاقة بالصناعة. في المدى البعيد لن نعرف أين الميزة النسبية بين أنواع الصناعة؛ فهذه كانت سهلة في صناعة البتروكيماويات ولكنها ستزداد صعوبة؛ ولكن علينا إعادة توظيف التعليم والدعم مع الحرص على عدم استغلاله، فالذين سيطلبونه ليسوا قلة، والفرز سيعتمد على كفاءة التكنوقراط وإخلاصهم.