وظائف المساجد .. والحاجة إلى التنظيم
على مر التاريخ كانت المساجد مراكز للتنمية البشرية والإشعاع المعرفي للمجتمعات حين كان الأئمة والخطباء رواد العلم والمعرفة، يعلمون الناس أمور الدين والدنيا، ويجتمع حولهم طلبة العلم والمسافرون والغرباء وطالبو الحاجة، قبل أن تزاحم المراكز الحديثة والمدارس والجامعات المساجد على تأثيرها التاريخي.
وإذا كان التأثير العلمي قد تراجع فإن التأثير الاجتماعي للمساجد ما زال حاضرا وبقوة في مجتمعنا، لكنه بقي مرتبطا بنشاط إمام المسجد ومهارته وقدرته على معرفة ظروف الحي الذي فيه المسجد والتواصل الفعال مع جميع الشرائح، وقد رأيت بنفسي نتائج هذا التأثير الإيجابي لعدد من أئمة المساجد في أحياء محدودة لم يكتفوا بالدور التقليدي في إمامة الناس بل كانوا مصدرا للثقة والعلم والمشورة وإعانة المحتاج وإصلاح ذات البين، وغيرها من القيم الرفيعة التي يعد الحرص عليها من مهام إمام الحي الناجح النبيه.
هذه النماذج ليست كثيرة وأعتقد أن نظام وزارة الشؤون الإسلامية الحالي له دور في ذلك.
فقد مر على صدور النظام أكثر من 30 عاما دون تطوير، وما زال النظام يعتمد على توظيف أئمة متعاونين بعضهم بمؤهلات متواضعة ومكافأة غير محفزة، الأمر الذي أسهم في إضعاف دورهم واقتصارهم على أداء الصلوات دون تفاعل إيجابي مع المجتمع.
ومع ضعف الرقابة أصبحنا نشاهد وافدين من جنسيات مختلفة يؤدون الواجب عن الإمام مقابل مكافأة شهرية وهي ظاهرة آخذة في الانتشار في معظم المدن.
ولو استعرضنا بالأرقام الإمكانات المتوافرة لدى وزارة الشؤون الإسلامية لتطوير أداء أئمة المساجد لوجدنا أن الوزارة لديها حسب الإحصائيات المعلنة قرابة 98 ألف مسجد في المملكة، بمعنى أن هناك 98 ألف وظيفة بمسمى "إمام مسجد"، ومثلها للمؤذنين، ومثلها كذلك لمسؤولي النظافة أو ما يسمى " خادم المسجد" ووظيفتا" المؤذن "والفراش"تسندان دائما إلى متعاونين بمكافآت متواضعة لا تتجاوز 1500 ريال للمؤذن و1300 ريال للخادم.
ومن الأمور التي تحيرني أن الوزارة وقعت عقود نظافة للمساجد خلال العام الماضي قيمتها 100 مليون ريال لمتعهدين دورهم إحضار عمالة وافدة لنظافة المساجد تجاوزت 90 ألف تأشيرة، ولا أعرف كيف يتم استقدام هذه الأعداد من الوافدين، وتصرف لهم هذه المبالغ رغم وجود موظف نظافة لكل مسجد؟ ولو سعت الوزارة لدمج الوظيفتين مع رفع راتبها إلى الحد المعقول واشتراط التفرغ لهذا العمل بدلا من المتعاونين، لاستطاعت الوزارة توفير 98 ألف وظيفة لأبناء الوطن وحصلت على خدمة أفضل بدلا من مئات الملايين التي تذهب هدرا لعقود النظافة وجيوب الوافدين. أما وظائف أئمة المساجد فالوزارة كما اطلعت لديها ثلاثة نماذج للمساجد، وعادة يكون النموذج الأول مسجد جامع مكتمل الخدمات والمرافق وفيه مركز للتحفيظ، ومكتبة، وسكن للعاملين وهو يمثل 40 في المائة من مساجد الوزارة، وهذا النموذج تمنح الوزارة فيه الإمام مكافآت تراوح بين 4 و 5 آلاف ريال إضافة إلى السكن. وأغلبية الوظائف من نصيب المتعاونين الذين يعملون في سلك التعليم، والجامعات، والجمعيات الخيرية، وأماكن أخرى. ومن البديهي أن المتعاون لا يستطيع أن يمنح وظيفته الثانية مثل ما يمنح الأولى من جهد ووقت، وقد حاولت الوزارة الخروج من هذا المأزق بالسماح للأئمة بالتغيب عن صلاة الظهر، لكن الواقع يؤكد أنها عالجت الخطأ بخطأ، والقلة منهم من استطاع أن يعطي المسجد ما يستحق من جهد ومشورة وتفاعل.
ولو اشترطت الوزارة على الأقل للنموذج الأول من المساجد التفرغ التام لهذه الوظيفة مع تحديد وصف وظيفي للإمام يتضمن مهام وظيفية تسهم في إثراء مجتمع المسجد، لاستطاعت الوزارة تغيير الصورة الذهنية لائمة المساجد، واستطاعت أيضا توفير ما لا يقل عن 40 ألف وظيفة إضافية في ظل وجود بطالة مرتفعة جدا في أقسام الشريعة والدراسات الإسلامية.
أما النموذجان الثاني والثالث فهما عادة مساجد صغيرة ومتوسطة ولا بأس أن تسمح الوزارة فيهما بتوظيف المتعاونين، وإن كنت أرى أن الوزارة تستطيع أن توفر ما يزيد على 60 ألف وظيفة أخرى فيما لو اشترطت التفرغ أو دمجت بعض الوظائف في وظيفة واحدة كأن تدمج وظيفة الإمام والمؤذن أو المؤذن والخادم، وتستفيد من خريجي جمعيات تحفيظ القرآن الكريم الذين يتجاوز عددهم 30 ألف خريج سنويا من حفظة القرآن الكريم.
إن التوظيف بهذه الطريقة في رأيي يجعل الوزارة قادرة على المتابعة والمحاسبة واختيار أفضل الكفاءات، بما يضمن جودة الأداء خاصة إذا ما اقترن الأمر بالتدريب والتأهيل المستمرين، ولن تخسر الوزارة الكثير فمعظم الرواتب تدفع من غلال الأوقاف وليست من خزانة الدولة.
واليوم، في ظل هذه الهجمات الأخلاقية والفكرية التي تواجه مجتمعنا وما نراه من جنوح أحيانا نحو التفلت الأخلاقي وأحيانا نحو التطرف الديني، ما أحوجنا إلى إعادة المساجد لدورها التنويري وتأثيرها الاجتماعي لحماية الفرد والأسرة والوطن، ولن يكون ذلك إلا بالكفاءات المؤهلة والمتفرغة لدورها.