قريَّان الهاجري .. مهندس طرق البترول
من الفضائل المحمودة للأمة ألا تغفل عن إكرام من يستحقون التكريم. قريان الهاجري، ليس اسما مجهولا ولا شبحا تتناقل قصصه ومغامراته الخالات والجدات، بل هو رمز من رموز شركة أرامكو السعودية العملاقة، وقدوة للشباب الطموح ورسم لامع فوق قمم طعوس رمال الربع الخالي. ولعل كثيرين من الجيل الحاضر قد سمعوا بابن رمثان العجمي ـــ عليه رحمة الله ـــ. أحد رجال البادية الأوفياء الذين عاصروا بداية الصناعة البترولية في بلادنا. وكانت شهرة بن رمثان تملأ الآفاق، كقائد ودليل للبعثات الجيولوجية التي كانت تجوب جوانب الصحراء بحثا عن حقول البترول. حتى إن شركة أرامكو كرمته بأن أسمت أحد الحقول البترولية باسمه، "حقل رمثان"، ويقع الحقل شمال المنطقة الشرقية.
قريان الهاجري لا يقل مهارة وحنكة ودراية بالطرق البرية الخالية من المعالم الطبيعية عن ابن رمثان - رحمه الله -. وقد يتميز عليه بأن قريان كان قد واكب عصر طفرة الحفر والتنقيب في المناطق النائية، شمالا وجنوبا، بما فيها الربع الخالي، خلال الثلاثين سنة الماضية. فقد تضاعف عدد أجهزة حفر آبار البترول على عهده أكثر من عشرة أضعاف، من 20 حفارا إلى ما يزيد على 200. وكانت مهمة قريان التعرف على أسماء مناطق الحفر ومواقع الآبار وأسهل وأقرب الطرق التي تؤدي إليها. وهي الطرق التي قد تكون متعرجة وسط كثبان الرمال المتحركة والهضاب الممتدة وحول الجبال الشاهقة، مع مراعاة أفضل مستوى للتكلفة. وهذه المهمة بالنسبة إلى قريان لا تختلف عمن يسير وسط مدينة عاش طول حياته داخل أسوارها. فهو يعرف أسماء شوارعها وأزقتها. ليس هذا بالأمر السهل والمتيسر عندما تكون مسؤولا أمام متطلبات شركة بترول بحجم "أرامكو" اليوم، تملأ الصحراء بأبراج الحفر التي تجوب أراضي واسعة ومواقع متباعدة، وتعمل على مدار الساعة. ومطلوب من قريان تحديد أسماء مواقع الآبار وتحديد طريق كل بئر. لم يكن ذلك يكلفه، الله يحفظه ويطول في عمره، أكثر من نظرة مد البصر إلى الأفق البعيد ومن ثم تحديد المسار الذي يؤدي إلى المكان المطلوب. حتى إنهم أطلقوا عليه لقب "بوصلة الصحراء". ولديه مهارة فائقة في توجيه مركبته، ذات الدفع الرباعي، عبر كثبان الرمال الناعمة دون أن تعوقها أو أن تنغرز فيها. فما أشبه مركبة قريان، وهو يقودها فوق قمم ومهابط الرمال بقول امرئ القيس في معلقته الشهيرة واصفا حركة حصانه عندما تحمَى نار الحرب،
"مكر مفر مقبل مدبر معا ..
كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ"
ولا يقدر صعوبة السير والتنقل من طعس إلى طعس عبر منخفضات صبخية إلا الذين عايشوا تلك المواقف. قريان أحد رجال البترول المرموقين في بلادنا الذين تنتهي مهمتهم عند بدء حفر البئر.
تشرفت بمعرفة أبي محمد وزملائه عندما كنت مديرا عاما لإدارة الحفر في "أرامكو"، أواخر الثمانينيات الميلادية، أو بالتحديد عام 1989. وكان العمل مع قريان وأمثال قريان من مهندسين ورؤساء أجهزة الحفر ومتابعي المواد والمحاسبين والمخططين والعاملين فوق أبراج الحفر، من أمتع أيام حياتي في الشركة. وكانوا بمثابة الجند المجهولين. يؤدون أعمالهم بكل جد وإخلاص تحت حرارة الشمس وظلام الليل وبرد الشتاء، وهي حال زملائهم في الشركة العاملين في مرافق الإنتاج والتكرير وخطوط الأنابيب.
قريان رجل محترم بمعنى الكلمة وهو نفسه وبسليقته يحترم كل من كانت له علاقة به، وعلى وجه الخصوص الشباب الطيبون الذين كانوا يعملون تحت إدارته. نعم، لم يكن قريان يؤدي عملا منفردا. فقد كان، إلى جانب مهمته الأساسية وهي التعرف على الأماكن وتحديد مساراتها، مسؤولا عن مجموعة من الشباب الذين يؤدون مهام مختلفة من متطلبات إدارة الحفر. ولم يكن قريان يتقيد بدوام العمل الرسمي المحدد بثماني ساعات يوميا. فالعمل بالنسبة إليه 24 ساعة في اليوم، لأنه كان جزءا لا يتجزأ من إدارة عمليات الحفر التي لا تعرف النوم. يضع نفسه دائما تحت الطلب. وعمليات الحفر، بطبيعة الحال، لن تتوقف حتى نستخرج آخر برميل بترول. ولذلك فنحن دائما بحاجة إلى رجال بحجم قريان الهاجري.
ويا ترى، ما الذي جعل ابن رمثان - تغمده الله برحمته - أكثر شهرة من قريان الهاجري؟ مع أن الأخير لم يكن أقل مهارة ولا أداء ولا مواطنة ولا جهدا في العمل؟ لعلها الظروف واختلاف بيئة العمل. فقد يكون الأول قد بهر الأمريكان عندما كانت شركة أرامكو أمريكية، وكانوا حينئذ حديثي عهد بالصحراء، في دلولته لأرض غريبة عليهم، خالية تماما من المعالم الظاهرة، ما عدا شجيرات متشابهة، مبعثرة هنا وهناك. فأكبروا فيه معرفته بكل بقعة في محيط أعمال الشركة. وليس هناك أكبر تقدير لخدماته من أن يطلقوا اسم ابن رمثان على أحد الحقول الجديدة. وهي سابقة لم يعهدها تأريخ الشركة، ولم تتكرر حتى لمصلحة من قدموا إلى المملكة من المواطنين خدمات جليلة في مجال صناعة البترول. وإذا عملنا مقارنة بين تاريخ ومنجزات الاثنين، لوجدنا أن قريان الهاجري لم ينل ما يستحقه من الشهرة. وقد يعود ذلك، كما ذكرنا آنفا، إلى طبيعة بيئة العمل وتحول الشركة بكاملها إلى وطنية، والكل فيها يعمل بكل جد واجتهاد. هذه مجرد خواطر عابرة. وإلا فأنا متأكد، ودون أدنى شك، أن حبيبنا وزميلنا المبدع قريان الهاجري راض كل الرضا عن التقدير المعنوي الذي تكنه له إدارة الشركة وموظفوها الذين زاملوه في مسيرته الطويلة المملوءة بالتحديات والإنجازات. تقاعد قريان الهاجري عن العمل حديثا وهو لا يزال ـــ ما شاء الله ـــ شابا يافعا لا تظهر عليه معالم سن التقاعد. بارك الله في عمره وأسعده في حياته. ولمن يريد معرفة المزيد عن حياة قريان، يشاهد مقابلته الممتعة مع برنامج "اسناب شات" في اليو تيوب.