رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


منظومة التفكير.. وآفاق المستقبل

لعلنا نبدأ هذا المقال بالوقوف أمام عبارتين. الأولى عبارة شهيرة متداولة عالميا على نطاق واسع تقول: "أنا أفكر، إذا أنا موجود". أطلق هذه العبارة العالم الفرنسي "رينيه ديكارت"، صاحب مبدأ "إحداثيات المواقع"، الذي عاش في القرن السابع عشر للميلاد. والعبارة الثانية تقول: "فَكر قبل فوات الأوان"، وهي عنوان لكتاب صدر عام 2009، ألفه "إدوارد دو بونو"، أحد رواد أساليب التفكير المعاصرين. في العبارة الأولى تركيز على أن "التفكير" يمثل أهم صفة من صفات الإنسان. وفي الكتاب الذي يحمل العبارة الثانية تحذير من "ضعف التفكير" في العالم، واعتبار ذلك أهم مشكلات العصر، لأنها إذا حلت، بات بالإمكان حل جميع المشكلات الأخرى.
للتفكير في ديننا الإسلامي الحنيف أهمية كبيرة، فقد حثنا الله ـــ عز وجل ـــ على التفكر والتدبر، وفي القرآن الكريم حث على ذلك والثناء على "أولي الألباب"، والذين "يتفكرون"، والذين "يعقلون"، وأصحاب "الحكمة" الذين يؤتون خيرا كثيرا. وقد وضع الكاتب الشهير "عباس محمود العقاد"، الذي عاش في القرن العشرين للميلاد، كتابا بعنوان "التفكير فريضة إسلامية".
إذا نظرنا إلى العالم من حولنا نجد أدلة على نجاح التفكير في تقديم معطيات مفيدة كثيرة؛ ونجد أيضا أدلة أخرى على إخفاقه في حل مشكلات إنسانية كثيرة. بين أدلة النجاح المبتكرات والآلات والخدمات التقنية التي تسهل أعمال الإنسان في شتى المجالات، وتمنحه رفاهية لم تكن متوافرة لدى أجداده. وبين أدلة الإخفاق النزاعات والحروب التي لا تنتهي، وغرور القوة وجبروتها، والفقر والجهل والمرض، بل الجوع أيضا، في أماكن مختلفة من العالم، ناهيك عن تلويث البيئة بشكل متواصل، دون حساب لتداعيات ذلك على أجيال المستقبل.
العقل البشري، الذي ميز الله به الإنسان عن سائر مخلوقاته، هو المسؤول عن التفكير. وهو في ذلك واقع تحت تأثير عوامل ومؤثرات كثيرة قد تسهم في تعزيز توجهه نحو الصواب أو قد تحرفه يمنة أو يسرة، أو حتى قد تعكس اتجاهه. ولعله يمكن على أساس ذلك أن ننظر إلى التفكير كمنظومة جوهرها العقل وتتمتع ببنية من المكونات التي تستخدمها في تنفيذ مهامها، في إطار بيئة محيطة تؤثر فيها وتتأثر بها.
سننظر إلى بنية منظومة التفكير على أنها تتكون من "ثلاثة مكونات رئيسة" متداخلة ومتكاملة. ولهذه المنظومة "مدخلات" تتمثل في أي مشكلة مطروحة، بما في ذلك المعلومات المرتبطة بها. وقد يتم طرح هذه المشكلة بشكل مباشر على المنظومة من جهة خارجية أو قد تتم ملاحظتها من قبل مكونات المنظومة ذاتها. وتتعامل المنظومة مع المشكلة من خلال مكوناتها الثلاثة، في إطار البيئة المطروحة، كما هو موضح فيما يلي.
يختص المكون الأول للمنظومة "بمنطلقات التفكير". ولهذه المنطلقات: جانب عام مثل "جانب المبادئ والسلوك الأخلاقي وروح المسؤولية"؛ وجانب خاص يرتبط بالمشكلة المطروحة مثل جانب "الأهداف والطموحات" المطلوب تحقيقها في العمل على حل المشكلة. وتسهم المنطلقات العامة لكل إنسان في توجيه تفكيره العام؛ كما تسهم المنطلقات الخاصة في توجيه تفكيره الخاص تجاه المشكلة.
ولعلنا نذكر في إطار الجانب العام من منطلقات التفكير لدينا الحديث النبوي الشريف "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ونذكر أيضا الآية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ففي هذين المبدأين تلخيص لما يجب أن تتضمنه المنطلقات العامة لتفكير الإنسان في توجهاته الشخصية والمهنية وفي قضايا تعامله مع الآخرين.
يهتم المكون الثاني للمنظومة "برؤية" المشهد المطروح للتفكير وتحليله واستيعابه. ولهذا المكون كسابقه جانب عام وآخر خاص. يهتم الجانب العام برؤية مشهد المشكلة المطروحة ضمن مجالها الواسع، ومن الجوانب كافة، ومن زوايا مختلفة، وليس من ثقب الباب أو من نافذة محدودة الأبعاد.
أما الجانب الخاص فيركز على هيكلة المشهد تبعا لموضوع المشكلة المطروحة، حيث يساعد ذلك على إدارة النظرة التحليلية إلى المشهد، ويرتبط هذا الجانب بما يعرف "بالتفكير المتوازي". ففي المشكلات العامة يمكن هيكلة المشهد على أساس محاور "القبعات الست" التي اقترحها "دو بونو". وفي مشكلات التقييم يمكن استخدام التحليل الرباعي "مكامن القوة، ومواطن الضعف، والفرص المتاحة، والعقبات المحتملة"، وفي طرح قضايا التخطيط والتحول يمكن الهيكلة على أساس محاور "التقنية والمؤسسة والإنسان والبيئة"، كما بينا في مقال سابق. ويمكن بالطبع استخدام مزيج من طرق الهيكلة هذه، أو ربما ابتكار طرق أخرى جديدة.
ونأتي إلى المكون الثالث لمنظومة التفكير وهو مكون "المعالجة" بمعنى بيان مسيرة العمل أو الإجراء الذي يجب اتخاذه بشأن التعامل مع المسألة المطروحة والانتقال بها من الحالة التي أفرزت المشكلة إلى الحالة التي تقدم الحل. ولهذا المكون كسابقيه جانب عام وآخر خاص. يهتم الجانب العام بطرح المعالجة، على أساس كل من "منطلقات التفكير" و"معطيات المشكلة في المشهد الذي يعبر عنها". ويتم ذلك عبر خطوات متدرجة تؤدي إلى الوصول إلى الحل المطلوب على أساس "الأداء المنشود". ويركز الجانب الخاص على توصيف مثل هذه الخطوات والتعريف بالمقاييس وقيمها المرجعية تبعا للمشكلة المطروحة. ففي موضوع إنتاج السلع ترتبط مثل هذه الخطوات بخط إنتاج هذه السلع؛ وفي تطوير الأعمال تستخدم خطوات إدارة الجودة، مثل "خطوات ديمينج" وخطوات "الأبعاد الستة" التي طرحناها في مقال سابق. وهناك بالطبع خطوات أخرى للمشكلات المختلفة.
تعمل مكونات منظومة التفكير الثلاثة "المنطلقات والرؤية والمعالجة" في إطار "بيئة محيطة" قد تكون محفزة أو تكون محبطة، أو قد تكون حالة مختلطة بينهما تبعا للقضايا المطروحة. ثم هناك أيضا عامل "الزمن" المتغير الرئيس في حياتنا، الذي يمضي مستمرا لا ينتظر أحدا. ولا بد لمنظومة التفكير من أخذ هذا الأمر في الاعتبار كي تقدم حلولا للمشكلات التي تواجهها في الوقت المناسب.
نريد أن يكون لدى كل منا منظومة تفكير متطورة في "منطلقاتها ورؤيتها ومعالجتها" للأمور، ضمن "بيئة" محفزة تراعي متطلبات "الزمن"، وتمكننا من حل مشكلاتنا والتعامل مع قضايا الحياة "بكفاءة وفاعلية وسعي إلى تجنب المخاطر"، على كل من المستويين الشخصي، والمهني، ومستوى العلاقة مع الآخرين. لعل كل منا يستطيع البدء بذاته وربما أسرته وأصدقاؤه، ولعل التعليم يكون عونا للناشئة على ذلك، فالمستقبل منهم وهو إليهم أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي