تأبى الذاكرة وداع رمز الشهامة والكلمة الرائعة
ودع الوطن شاعرا فحلا، ورجلا شهما، وإنسانا كريما، وأميرا متواضعا، ومتحدثا لبقا. ولعظم مكانته الكبيرة في النفوس، تدافعت الجموع الغفيرة في وداعه، والدعاء له، وتقديم التعازي لأبنائه وبناته، وفي هذه الجموع ترى الأمراء، والوزراء، وعلماء الدين، وكبار المسؤولين، ورجال القبائل، وعشاق الشعر والأدب، وعامة الناس من كبار القوم وصغارهم، ومن السعوديين وغير السعوديين. هذه الجموع الغفيرة لم تأت مجاملة لأحد، وإنما مجيئها كان تقديرا لهذا الرجل، الذي فرض احترامه بأفعاله الرائعة، وأخلاقه العالية، وسجاياه الجميلة.
سعود بن محمد بن عبدالعزيز كان رمزا للإنسان الرائع بتواضعه، وكرمه، وحرصه على قضاء حاجات المحتاجين، وكان شهما يقدر الناس، ويعلي من شأنهم، ويرفع مكانتهم، من خلال تعامله الراقي وأخلاقه العالية، هذا ما سمعته في أكثر من مجلس بعد أن بلغنا نبأ وفاته، عليه رحمة الله. فقد استقر في قلوب الكثيرين، وكسب احترامهم وتقديرهم ومودتهم.
يذكر أن الأمير الشهم ولد في عام 1352هـ الموافق 1932 أي بعد ما يسمى بـ "سنة الرحمة" بـ15 سنة، وهو حافظ لكتاب الله في سن مبكرة، وعارف بالأنساب وأحاديث الشعراء، وعاشق للصحراء والفروسية والقنص، وقد عرف بعلاقته القوية وصداقته الحميمة بابن خاله الملك فهد وتأثر بمرض الملك قبل وفاته- رحمهما الله جميعا وأموات المسلمين– وقد عبر عن مشاعره الصادقة بقصيدة معروفة، قال فيها:
أنت فهد متعب بطيبك هل الطيـب... أشرف هل الدنيا رضوك وعنولك
جمعتهـا حـظٍ وعقـلٍ وتجريـب... يشهد لنا فعلـك وعدلـك وقولـك
لا برّكت فالدرب عوج المصاليـب... تشيل كل حمولهـا مـع حمولـك
مشكور يا راعي الوفا فالمواجيـب... ياللـي صناديـد المـلا سلمولـك
يصيب ظنك وأنت ما تعلم الغيـب... كن الذي خلف المحيطات حولـك
ونظرا لمحدودية المجال المخصص لهذا المقال، فإن عدم الوفاء بحق هذا الرجل واقع لا محالة، لذلك اكتفيت بمقتطفات من حدائق شعره الجميلة الغناء التي تركها لنا الشاعر سعود بن محمد. فقد تميز شعره بالرقة، والموسيقى العذبة، والقدرة على انتقاء الألفاظ الجميلة، والمعاني الراقية، والصور الإبداعية الجميلة، من روائع أدبه الشعبي قوله:
لا تحسب إني داله عنك ناسيك ... لا والذي تنصى المخاليق بيته
إن كان تغليني غلا مثل ما أغليك ... مجبور تاطى بالهوى ما وطيته
ما شفت عبرة عيني اللي تراعيك .... هلت على المكتوب ساعة قريته
ومن إبداعاته أيضا، قوله يرحمه الله:
لو يلبسون الذهب وعقـود... غلبتهن وأنـت بحرامـك
واللي زعل قل يقول سعود... خلي خذا الزيـن قدامـك
***
يا زين قولتها كذا تنسف الراس ... تضحك وسود الرمش غاشٍ وجْنها
تذبح بجيّد فيه رمح من الماسْ ... له لفتة خَطْرٍ على الروح منها
تاهت بوجداني وقلبي والإحساس ... واقفت بغالي الروح بأرخص ثمنها
أحبّ قاعٍ به قدم رجلها داس .... حيث الوطن في الكون عندي وطنها
ختاما، هذا الإنسان الرائع لم يمت، بل لا يزال حيا بذكره العطر على ألسنة الناس، وبمكانته في قلوبهم، وكما يقال: "من خلف ما مات"، خاصة عندما يرزق بأبناء بررة تمثلوا بأخلاقه، وترعرعوا في مدرسته ونهلوا من ينابيع سجاياه الجميلة، وسماته الرائعة، وقيمه النبيلة، التي يشهد لهم بها القاصي والداني. أخيرا أقدم التعازي لأبنائه وبناته والشعب السعودي الكريم، وأدعو الله له بالرحمة والمغفرة وسكنى فسيح الجنان.