الاهتمام بإجراءات العمل في مسيرة التحول
طرحنا في مقال سابق موضوع "مشهد التحول والمُنافسة" الذي تفرضه علينا مُستجدات العصر الذي نعيش فيه. وبيّنا في المقال ضرورة التوجه نحو وضع استراتيجية لا تكتفي فقط بالاستجابة لهذه المُستجدات، بل تسعى أيضا إلى صنع مستجدات أخرى استباقية تضعنا بين المُتنافسين على ريادة المُستقبل. وناقش المقال أربع ركائز رئيسة ينبغي أخذها في الاعتبار في وضع الاستراتيجية المنشودة. وتشمل هذه الركائز "الإنسان، والتقنية، والمُؤسسات، وبيئة العمل"، حيث تُعطي هذه الركائز صورة مُتكاملة لمشهد التحول والمُنافسة كما يجب أن نراه. وأوضح المقال أن مُتطلبات ريادة المُستقبل، في إطار هذه الصورة، تشمل الاهتمام "بإجراءات العمل" والسعي إلى تطويرها.
قرأ المقال الزميل العزيز الأمير الدكتور بندر المشاري آل سعود، وقدم لي مُلاحظة ثمينة تتلخص في ضرورة تعزيز مشهد التحول الوارد في المقال عبر إلقاء المزيد من الضوء على "إجراءات العمل" نظرا لأهميتها في مسيرة هذا التحول. وأشار الزميل العزيز في هذا المجال، إلى "نموذج نضج الإمكانات CMM" التي تحتاج إليها إجراءات العمل. ففي هذا النموذج بيان لاحتياجات الإجراءات التي تُمكنها من تقديم أفضل النتائج. وعلى الرغم من أن انطلاقة هذا النموذج جاءت في تسعينيات القرن الماضي الميلادي، من "معهد هندسة البرمجيات" التابع "لجامعة كارنيجي- ميلون"، من أجل تفعيل تطوير البرمجيات الحاسوبية، إلا أن تطوره المستمر بعد ذلك جعل منه وسيلة مفيدة للاستخدام في تطوير الإجراءات في مختلف مجالات العمل والإنتاج.
يمكن النظر إلى أي "عمل" على أنه يتم وفق "إجراء" يتلقى معطيات محددة هي "مدخلاته"، ويتضمن نشاطات معينة، يقدم من خلالها معطيات أخرى هي "مخرجاته"؛ وتحقق هذه المخرجات غاية مطلوبة تمثل الهدف من الإجراء والعمل الذي يؤديه. ويكون هناك مقاييس أداء للإجراء تقيّم مسيرة نشاطاته نحو تقديم مخرجاته المنشودة. وتتضمن هذه المقاييس عوامل رئيسة مثل: "فاعلية" الإجراء التي ترتبط بمدى تحقيقه لغايته المنشودة في تقديم مخرجاته؛ و"كفاءة" الإجراء التي تركز على تقليل أو إزالة الجهود والتكاليف غير الضرورية في تنفيذه؛ و"رشاقة" الإجراء التي ترتبط بالعاملين السابقين، وتركز على الحد من الزمن اللازم لتنفيذ الإجراء؛ و"متانة الإجراء التي تهتم بتجنب المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها، وغير ذلك. وتعطي مقاييس الأداء مجتمعة مدى "جودة" الإجراء.
اهتم رواد تقييم "الجودة" وتطويرها، على مدى القرن الـ 20 للميلاد، أمثال "شوارتز؛ وديمنج؛ وجوران؛ وكروسبي" وكثيرون بعدهم بجودة الإجراء كوسيلة رئيسة لجودة "مخرجاته". فالإجراء الذي يتمتع بجودة الأداء، يقدم "منتجات" تتمتع أيضا بالجودة. وطرح هؤلاء عبر الزمن أفكارا ومنهجيات متعددة في هذا المجال ركزت على التطوير المستمر لإجراءات العمل؛ ومن أبرز مثل هذه المنهجيات ما عرف "بإدارة الجودة الشاملة"؛ و"إعادة هندسة الإجراءات"؛ و"الأبعاد الستة"؛ وغيرها. في هذا الإطار برز "نموذج نضج الإمكانات" الذي أشار إليه الزميل العزيز. ويتميز هذا النموذج في مسألة رئيسة هي تحديد "متطلبات" إجراءات العمل، وتقسيم هذه المتطلبات إلى خمسة مستويات، لكل منها درجة معينة من النضج.
المستوى الأول، من مستويات النضج في النموذج، مستوى غير منظم ويتصف بطبيعة عشوائية، وليس له متطلبات أو معايير محددة، ويدعى بالمستوى "الأولي" Initial. ويعتمد أداء الإجراء، في إطار هذا المستوى، على إمكانات الأفراد العاملين وسلوكهم، وعلى مدى التعاون الشخصي فيما بينهم؛ ويعاني عدم وجود أي تنسيق أو تنظيم لمتطلبات العمل الذي يقومون به. ويرتقي الإجراء من المستوى الأول إلى المستوى الثاني من خلال "إيجاد إدارة" لتنظيم إجراءات العمل المطلوب، ويدعى هذا المستوى بالمستوى "المنضبط" Managed. ويتم فيه تحديد النشاطات المطلوبة، وتوثيقها، وتقدير تكاليفها، وتنظيم أدائها. ويعطي ذلك أداء منهجيا للعمل، قابلا للتنفيذ والتكرار بأسلوب موحد.
يدعى المستوى الثالث بالمستوى "المُعرّف" Defined، ويشمل إمكانات إدارية أخرى تضاف إلى إمكانات سابقه بغاية "تطويرها". وبين هذه الإمكانات: تحليل المخاطر المحتملة؛ والتدريب؛ واتباع معايير لاتخاذ القرارات ذات العلاقة بالنشاطات المكونة لإجراء العمل؛ وغير ذلك. ويسمح هذا المستوى من النضج بالتعامل الإيجابي مع المشاكل التي قد تُعيق تنفيذ إجراء العمل. ويلي ذلك مستوى النضج الرابع الذي يدعى بالمستوى "المنضبط كميا" Quantitatively Managed، والذي يشمل إمكانات مضافة تهتم أساسا بقضايا تقييم الأداء. ويأتي أخيرا المستوى الخامس الذي يدعى بمستوى "الحل الأمثل" Optimizing، ويهتم بالإمكانات التي تسهم في تطوير الإمكانات لتقديم إجراء أمثل للعمل المطلوب.
وهكذا نجد أن مستويات نضج إجراء العمل تبعا "لنموذج نضج الإمكانات" تبدأ "بفوضى" في العمل، وتتدرج صعودا باتجاه إيجاد "إدارة" تضبط العمل، ثم "تطوير" هذه الإدارة، وتمكينها من "قياس الأداء"، وصولا إلى تمكين القيام بتقديم "إجراءات مثلى". وبذلك يعبّر هذا النموذج عن احتياجات إجراءات العمل التي "تمكنه" من تقديم "مخرجاته" بالجودة المطلوبة. ويختلف هذا النموذج في ذلك عن مراحل التطوير المستمر المعطاة في منهجيات تطوير الجودة، مثل منهجية التطوير المرتبطة بأسلوب "الأبعاد الستة"، والتي تتضمن مراحل "التعريف بالحالة، وقياسها، وتحليلها، وتطويرها، والتحكم بها". فإذا كان نموذج نضج الإمكانات يحدد متطلبات إجراءات الأعمال التي "تمكّن" التطوير، فإن منهجيات التطوير تعطي "آلية العمل" على تحقيق التطوير المنشود، أي أن هناك تكاملا بين الاثنين.
لا شك أن وضع استراتيجية تستجيب لمُتطلبات التحول في هذا العصر وتسهم فيه قضية رئيسة في حياتنا، كما بيّنا في مقال سابق. ولا شك أيضا أن هذه الاستراتيجية تحتاج إلى إجراءات عمل تتسم بالكفاءة لتنفيذها على أفضل وجه ممكن؛ كما تحتاج أيضا إلى إجراءات عمل ناجحة لتنفيذ مختلف الأعمال الإدارية والتقنية في قطاعات الأعمال العامة والخاصة كافة، وعلى مختلف المستويات. إنتاجيتنا، وأداؤنا، وقدرتنا على المنافسة، وسعينا إلى ريادة المستقبل، أمور مهمة ترتبط بتوافر متطلبات نضج إجراءات العمل، وحسن تنفيذنا لها، وسعينا إلى تطويرها.
نحتاج إلى تطوير إجراءات عملنا على مختلف المستويات، نحتاج إلى الارتقاء باحتياجاتها ومستوى نضجها، نحتاج إلى تطويرها باستمرار. في هذه الإجراءات تكمن قدرتنا على المنافسة، على الإنتاجية، والفاعلية، والكفاءة، ورشاقة العمل، وتجنب المخاطر. علينا أن نكون جاهزين للمنافسة، أن نستفيد من النماذج والأساليب سابقة الذكر، وأن نستخدم التقنية المفيدة على أفضل وجه ممكن. وعلينا، قبل ذلك وبعد، ألا نحد دور الإنسان في تنفيذ ما نريد فقط، بل أن نتيح له إمكانات الإبداع والتطوير والريادة أيضا.