حريق مستشفى جازان .. خطأ من؟

.. خطأ؟ لا، إنه ليس خطأ أحد.
لا تتعجبوا. فالذي حدث في جازان ليس خطأ، إنه أمر أكبر من الخطأ، إنه كارثي بمعايير الكارثة القياسي عندما تموت الأرواح، ويصاب الناس في جحيم أرضي أبشع صور الموت، هو الموت البطيء بالاحتراق أو بالاختناق، ليس هناك ألم يمكن أن يتعرض له الإنسان أكثر من ذلك، حتى أن الله بلطفه وضع استشعارا بأعصابنا لنفقد وعينا عندما يكون الألم فوق الطاقة وأبعد مما يتحمله أي أحد.
المسألة ليست خطأ، الخطأ كلمة لا تعني شيئا في موضوع كارثي بهذا الحجم. يعلم الله وحده أن الكوابيس هاجت مضجعي وأنا أتخيل الذين كانوا يفقدون حياتهم ببطء في عذابات لا تدانيها أي عذابات. عذاب تكون عنده كلمة الألم لا تعني شيئا أبدا، إلا كما يعني أن يربت أحد على كتفيك.
إنه الإهمال هو المجرم، وعدم الجدية، وعدم الدقة المؤلم، وعدم تحسس الخطر المؤلم، وعدم الإيمان الذي لا يتزعزع بأن الصيانة أهم شيء في أي بناء، بل إن صيانة أي بناء أهم من البناء نفسه.
الذي يجعل الإنسان مذهولا هذا الإهمال أيا كان سببه متعمدا أم غير متعمد، وعندما أتكلم عن الإهمال والدقة والجدية، فإن المسألة تتعدى فقط الحفاظ على مخارج السلامة، أو وجود أهواز الحريق أو الطفايات، إنه يبدأ من التصميم نفسه. يعرف المعماريون والمهندسون المدنيون أولا أن هناك تخصصات هندسية وشركات ومهندسين يتخصصون في البناء المعماري للمستشفيات، فهل نحن نتعاقد مع مكاتب هندسية تخطط للتصميم صفتها وتخصصها تصميم المستشفيات؟ ثم إن هناك أيضا مقاولين ومهندسين مدنيين وكهربائيين وميكانيكيين مختصين فقط في تصميم أنظمة البناء والإمدادات في كامل مبنى المستشفى، ويكون هو تخصصهم ومجال عملهم. أم أننا نعطي البناء لأي مقاول ترسى عليه مقاولة ونكتفي بأنه مصنف رسميا؟ وأي مكتب يعد الخرائط وليس مكتبا خاصا في رسم خرائط المستشفيات. إن كنا فعلا نعطي المستشفى مشروعا متكاملا للمكاتب ومقاولين عامين فهنا يبدأ إهمال جسيم.. جسيم جدا. عندها لمن نشير بأصابع الاتهام؟ صعب جدا أن تلوم من دون أن تعرف من أين بدأ الاهمال الذي يقود لعواقب وخيمة لعدم التخصص وفي أهم بناءات في أي دولة، المستشفيات. لأنك كي تلوم فمن الخطأ أن تلوم آخر من تراه على مسرح المشهد، فالأمر أعمق وقبل ذلك بكثير، إنه من الأنظمة نفسها إن كانت موجودة أم لا في كود خاص لبناء المستشفيات أعده في الأصل بيت أو بيوت هندسة معيارية مرخصة عريقة دوليا في مجال إنشاء المستشفيات فقط. فكل مرة نلوم وللناس الحق باللوم، ولكن نلوم آخر من نراه، وحتى لو بدلنا ألف وزير فالوضع لن يتغير إن لم يكن التغير في غرس الجذور في الأصل. فشجرة نمت من بذرة لا تثمر لا يمكن أن تلوم البستاني الجديد عندما لا تخرج الثمر، لك أن تلومه أنه لم يتنبه ويقول ويحذر، ولكن الخطأ بدأ من هناك من تحت الأرض من البذرة التي زرعت ودفنت.
ثم هذا الشعور المخادع بأن الأخطار بعيدة عنا، وأنها إن وقعت لغيرنا لا نتعلم منها ولا تستيقظ لها خلايانا الإحساسية والإدراكية تحت هذا الشعور المخدر بأن ما حصل لغيرنا لن يحصل لنا، بينما تحمل الأمور المؤلمة رغم سوادها نقطة بيضاء صغيرة بآخر أنفاق الآلام هي أنها درس للآخرين، درس بحكم الواقع والحدوث، ولا أقوى دليل من هذا.
الخطأ إن كان لي أن أستخدم هذه الصفة الهزيلة لأمر مهول هو أن الصيانة غائبة عنا، مع أننا نصرف البلايين على عقود لا تنهض بمدراسنا ولا مستشفياتنا ولا منشآتنا العامة. الصيانة يجب أن تبدأ في الأكاديميات، في كليات راقية متخصصة لعلوم هندسة الصيانة، ثم معايير دورية تضع كل حجر في مكانه الصحيح، للفهم الصحيح، والتطبيق الصحيح، والمراقبة الصحيحة.
عندها سيكون أمامك المتهم جليا، والاتهام أكثر وضوحا، لو حدث أمر كارثي.
ونسأل الله الحماية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي