إدارة عملية نضوب حقول البترول

يصرح المسؤولون والمتخصصون في عمليات إنتاج البترول، فيذكرون أن حقول البترول خلال عمرها الإنتاجي، تفقد سنويا ما يزيد على 4 في المائة من إنتاجها نتيجة للنضوب الطبيعي. جميل، ومعلومة قيمة وواضحة. وهذه المعلومة نسمعها كثيرا من بعض الكتاب والمحللين، ولكن دونما استطراد أو توضيح للمقصود والكيفية. وقد يتساءل المرء ويقول: إذا كانت الصورة كما ذكر أعلاه، فلماذا لا نرى هذه الظاهرة تؤثر في مجموع الإنتاج العالمي؟ فعلى سبيل المثال، إذا كان الإنتاج الكلي يبلغ 97 مليون برميل يوميا، كما هي الحال اليوم، فمن المفترض أنه ينخفض خلال السنة المقبلة بمقدار ما يقارب أربعة ملايين برميل، ويصبح الإنتاج 93 مليون برميل. وهكذا في كل سنة ينخفض بالنسبة نفسها. وهو ما لم يحدث في وقتنا الحاضر. بل إن الذي يحصل هو العكس، أي ارتفاع كمية الإنتاج سنويا رغم حتمية استمرار النضوب وعدم ظهور اكتشافات بترولية ذات قيمة.
سنتحدث في هذا المقال عن هذه الظاهرة، النضوب الطبيعي للبترول التقليدي المعروف، والتفسير المنطقي لعدم نزول الإنتاج رغم السحب الهائل الذي يمارسه المنتجون. ببساطة متناهية، ذلك يعود إلى الرفع المستمر لمستوى الصرف على عمليات الإنتاج. فكل سنة يزيد المنتج من مبلغ التكلفة بنسبة معينة من أجل أن يضمنوا بقاء كميات الإنتاج ثابتة أطول فترة ممكنة، إذا استثنينا حالات نادرة من وجود اكتشافات بترولية جديدة تضيف إلى الاحتياطي. وإذاً فالسر من وراء عدم نزول كمية الإنتاج هو صرف مزيد من الأموال من أجل إبقاء الإنتاج عند المستوى المطلوب. وهذا لا يضيف إلى كمية الإنتاج الكلية أو رفع الاحتياطي القابل للإنتاج أو نسبة الاستخلاص خلال عمر الحقل. بل في الغالب سيؤدي إلى نضوب مبكر للحقل.
ولعل القارئ الكريم كان قد سمع أو قرأ التوصيات التي تطلقها، من حين إلى آخر، بعض الهيئات المتخصصة في شؤون مصادر الطاقة، مثل وكالة الطاقة الدولية ومصادر أخرى، المتمثلة في تكرار حث دول الإنتاج على رفع مستوى الإنفاق والاستثمار المالي في عمليات الإنتاج. وهذا النداء، غالبا، لا يعني البحث عن مصادر أو حقول جديدة، فهذا أمر مفروغ منه. فعملية استكشاف حقول جديدة في جميع أنحاء العالم قائمة على قدم وساق، وليست بحاجة إلى حث أو تذكير. إنما المطلوب من الدول صاحبة الشأن هو المحافظة على مستويات الإنتاج الحالية عن طريق حفر مزيد من الآبار وإضافة كثير من المرافق الجديدة. وهذا حتمًا سيساعد على بقاء الإنتاج حيثما هو، ويحول دون النزول نتيجة للسحب المستمر. ولكن ماذا سيحدث بالنسبة إلى التكلفة وتحديد عمر الحقول؟ من البديهي أن استمرار الاستنزاف من أي مصدر ليس له روافد سيقلص من عمر ذلك المصدر. فلنفترض أن لدينا، على سبيل المثال، حقلا يبلغ احتياطيه القابل للإنتاج مليار برميل. فلو ثبتنا المستوى السنوي للصرف وبدأنا ننتج كمية معينة من البترول، ولتكن 100 ألف برميل يوميا. فإن هذه الكمية ستتناقص مع مرور الوقت، وهو أمر طبيعي. والسبب أن الحقل يفقد قوته الذاتية التي قوامها عادة الغاز الذائب والضغط الأصلي الكبير، ومن ثم ينخفض إنتاج الآبار. ومثل هذا الوضع، يساعد على إطالة عمر الإنتاج إلى سنوات طويلة مع التدرج في الانخفاض. وهذه من الحالات التي لا تجد لها أثرا في أرض الواقع. أما الوضع السائد بين المنتجين فهو محاولة المحافظة على مستوى الإنتاج المطلوب عند أعلى حد، حتى لو أدى ذلك إلى مضاعفة التكلفة مرات كثيرة، لكنه سيكون على حساب العمر الافتراضي للحقل، إضافة إلى احتمال التأثير السلبي في كفاءة معدل الاستخلاص، وتقليص الكمية القصوى التي كان من الممكن استخراجها من الحقل. أي إن ترك الإنتاج ينخفض تلقائيا طوال عمر الحقل يزيد من كفاءة الاستخلاص النهائية. فعندما نتحدث عن ارتفاع تكلفة إنتاج البترول مع مرور السنين، ما هو إلا نتيجة للإصرار على المحافظة على الإنتاج الكبير، مع علمنا بأن ذلك سيقلل من العمر الاقتصادي للحقل. ولو أجرينا مقارنة بين الحالتين: ترك الإنتاج يأخذ مجراه الطبيعي مع ثبات مستوى الصرف المالي، أو محاولة إبقائه ثابتا والحيلولة دون انخفاضه عن طريق استمرار صرف مزيد من المال، لوجدنا أن الحالة الأولى أفضل بكثير من الناحية الإنتاجية وأكبر مردودًا على مدى عمر الحقل.
وليس هناك أدنى شك في أن السياسة والمصالح الخاصة، سواء للأفراد الذين هم في مراكز القيادة أو الحكومات، لهم دور كبير في استنزاف الموارد الطبيعية. وهذا لا يختلف عما نشاهده في عصرنا الحديث من إسراف من بعض مسؤولي كثير من الدول نحو التوجه إلى الاقتراض المالي المجحف بفوائد مالية كبيرة. وذلك له خطورة قد تقود إلى حدوث كوارث اقتصادية يكون من الصعوبة بمكان تصحيح مسارها. وأقرب مثال ما حصل لبعض الدول الأوروبية وأمريكا اللاتينية خلال السنوات الماضية من صعوبات مالية نتيجة للتمادي في الاقتراض وعدم استطاعتهم الوفاء بالديون. واللوم يقع على من أراد أن يتوسع في الصرف دون ضمان دخل كاف يفي بمتطلبات المجتمع والديون معا. والشيء نفسه ينطبق على منتجي البترول. فهم لا يتحملون مشاهدة الإنتاج ينخفض وهم يستطيعون إبقاءه ثابتا ولو إلى حين، بصرف النظر عن النتائج السلبية اللاحقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي