إبداعات .. لكنها ليست كالإبداعات
تنقل وسائل الاتصال إبداعات كثيرة ورائعة كل أسبوع، بل كل يوم من مختلف الفئات، شبابا وكبارا ومتقاعدين، لكن معظم هذه الإبداعات والابتكارات تدور في فلك الطبخ والشواء والولائم ونحوها. أكذب لو قلت إنها لا تستوقفني أو ادعيت أن "الشواء" لا يسيل اللعاب، لكن أن يكون مجال الولائم والأكل والطبخ هو الميدان الرئيس للابتكارات والإبداعات العربية، لأمر محزن.
هناك أساليب مبتكرة للمندي والمظبي وهناك عشرات الابتكارات لطبخ "الكبسة" داخل القرع وتحت جمر "الغضا"، وهذه أفضل بكثير من حمى التسابق على أكبر طبق للكبسة أو المنسف أو أكبر كيكة في العالم، وأعتقد دون مراجعة دقيقة للوثائق أن المنطقة العربية – ربما - سجلت سبقا واضحا في كتاب الأرقام القياسية GunessBook، والسؤال المطروح: ما دلالات ذلك؟ وهل نحن نهتم بالأكل أكثر من غيره؟ ثم هل نحن نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش؟
ليت الأمر يقتصر على الابتكارات في أساليب الطبخ التي مهما قلت أهميتها، فإنها - بلا شك - تضيف إلى المعرفة الإنسانية، ولكن المعضلة الكبرى هي التسابق في "السخافات"، مثل إعداد وليمة تتكون من طبق يستوعب خمسة من الجمال وعشرين من الضأن، وتبلغ السخافة مداها عندما ترى أحد الأثرياء يستخدم "دهن العود" غالي الثمن لغسل أيدي الضيوف بعد الأكل. هذه الممارسات وأمثالها مخجلة لنا جميعا أمام المجتمعات الأخرى، ومؤسفة لأنها لا تعكس وعيا فكريا ولا شكرا لله على النعمة التي نحن فيها، خاصة أننا نلبس ما تخيط الصين، ونأكل ما يزرع الهندي والبرازيلي والمصري، ونستخدم ما يصنع الكوري والياباني، ونتطبب بما يخترعه الأمريكي والأوروبي.
ولا يقل عما سبق حمقا وتبذيرا عندما يبالغ أحد الأثرياء في حرق البخور الذي لا يستخرج من الغابات في جنوب غرب المملكة، لكنه يستورد بأثمان غالية من جنوب شرق آسيا، خاصة من الهند، وماليزيا، وإندونيسيا، فأحدهم قام بتصنيع مبخرة بحجم صندوق السيارة، ثم ثبتها في صندوقها، ومن ثم ملأ المبخرة جمرا، ووضع عليها من البخور المستورد، وأطلق السيارة لتتجول بين الضيوف مطلقة سحابة من البخور حول المخيم!
لا شك أن الكرم من القيم العربية التي نعتز بها، ونتميز بها مقارنة بشعوب الأرض، لكن هذه الأهمية ينبغي أن تتطور وتتكيف مع متغيرات العصر. فالكرم من القيم العربية الأصيلة التي تخفف قسوة الصحراء، وتحافظ على حياة البدو الذين يقطعون مسافات كبيرة، وتضطرهم قسوة الحياة إلى الاستراحة لدى بعض الأسر البدوية للأكل والشرب لبعض الوقت، ثم استئناف الرحلة مجددا، وقيم الكرم في الماضي ضرورية لبقاء إنسان الصحراء على قيد الحياة. لذلك تحث القيم العربية على أن يبقى باب البيت مفتوحا بشكل دائم، لكن السؤال في الوقت الحاضر: ماذا سيكون الحال لو ترك أحدهم باب بيته مفتوحا في إحدى المدن الكبيرة لكل من أراد الاستراحة وشرب القهوة أو تناول طعام الغداء أو العشاء؟! نعم هناك من يترك باب بيته مفتوحا في هذه الأيام، لكن تحت نظر الحراسة.
على الرغم من هذه التغيرات الاجتماعية ومع توافر خدمات الأكل والمطاعم في كل ناحية، تبقى وينبغي أن تبقى الأمجاد الرائعة التي نفخر بها مثلما قال الشاعر المعروف محمد بن شلاح المطيري (يرحمه الله):
أمل الوجار وخلوا الباب مفتوح خوف الميسر يستحي ما ينادي
يا نمر ما في صكة الباب مصلوح ولا هي بلنا يا مضنة فؤادي
ختاما أعتقد أن الوقت قد حان ليقف المجتمع مع نفسه، ويعيد النظر في المبالغة في بعض العادات والتقاليد التي تجاوزها الزمن، وغيرتها التغيرات الاجتماعية والتقنية، ويخفف من تمجيد تلك السلوكيات المذمومة، بل يمقت التصرفات الخارجة عن المألوف والمنطق والعقل، ويوجد سبلا وبرامج نوعية لتشجيع الابتكارات والإبداعات في المجتمع، وما أكثر العقول الشابة الطموحة التي تحتاج إلى دعم وتشجيع. فعلى الرغم من وجود بعض المؤسسات العامة والخاصة، فإن قليلا من الناس يعرف إجراءات التواصل معها من جهة، ومن جهة أخرى فإن خدماتها لا تصل إلى معظم الناس، الذين يرغبون في الاستفادة منها!