رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


اللغة .. والتنمية

يصادف هذه الأيام اليوم العالمي للغة العربية الذي اعتمدته منظمة اليونسكو، وتذكرت في هذه المناسبة موقفا حدث أيام الدراسة خارج البلاد حين سأل أستاذ مادة مناهج البحث ونحن في استراحة تخللت المحاضرة الطويلة الشاقة ذهنيا: ما هي اللغات المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة؟ فأخذ الطلاب يعطون إجابات بعضهم يذكر اثنتين وآخر يذكر ثلاثا وأربعا ولا يأتي ذكر على اللغة العربية فلما رأيت الأمر كذلك أدليت بدلوي وذكرت اللغات الست ومن بينها لغتنا الجميلة. ما دعاني لذكر هذا الموقف ما لاحظته على وجوه الطلاب من استغراب أن اللغة العربية إحدى اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة، فهل كان اعتقادهم أنها لا تستحق، أم أن جهلهم بهذه الحقيقة أحدث الاستغراب.
بغض النظر عمن هو العربي، هل كل من يتكلم العربية أم خلاف ذلك؟ من المؤكد أن هناك من يتكلم اللغة العربية بطلاقة لكنهم في ذات الوقت يعادون كل ما هو عربي ويرفضون ما جاء فيها من تنظيمات وتشريعات ومبادئ حياة وآخرة، وما المستشرقون إلا نموذج لهؤلاء فأعمالهم لا تخلو من الدس والتشويه وتزوير الحقائق، وهذا الأمر لا يقتصر على المستشرقين بل يوجد من أبناء الأمة من تنكر لأمته ولغتها حتى أصبح ينادي في كتاباته ومؤلفاته بضرورة التعليم باللغة الأجنبية ما يندرج تحت قاعدة انبهار المغلوب بالغالب وتبنيه نمط حياته وأنظمته ولغته ظنا منه أن التخلف الذي تعيشه الأمة مرده مبادئها ولغتها، وغاب عن باله أن شعوبا انقرضت لغاتها لكنها أحيتها وأصبحت لغة علم وبحث وتربية كما في الكيان الصهيوني.
المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى تكشف أن ضعف الأمة جاء كجزء من ضعف عام في كل المجالات حتى أصبحنا عالة على الآخرين في كل شيء بلا استثناء والسبب يعود إلينا نحن أبناء الأمة الذين تركنا مقصورة القيادة للآخرين، بعد أن كانوا يأتون إلى ديار المسلمين لطلب العلم، وبعد أن كانت ذخائر العلم، ومصنفاته تترجم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، ولعل من المناسب الإشارة إلى أن من التقاليد العلمية السائدة في أوروبا، أن شهادة التخرج يكتب في أعلاها عبارة بسم الله الرحمن الرحيم، ذلك عندما كنا أمة مؤثرة حيث ترسخ هذا التقليد في فترة زمنية، لكن ما لبث أن زال عندما ضعفت الأمة.
حقيقة لا يمكن إنكارها أن الغرب وبعض دول الشرق تقدموا علينا بمسافات حضارية شاسعة وأصبحنا نعتمد على منتجاتهم الحضارية من صناعات ومعارف ونظريات وقوانين علمية ندرسها في جامعاتنا ومدارسنا، لكن الحقيقة الأخرى التي يجب ألا تغيب عن البال أن الدول المتقدمة شرقا وغربا تعتمد في تعليمها لغاتها الأصلية ولم تتخل عنها وتستبدلها كما يطالب البعض من أبناء جلدتنا وكما تفعل المدارس العالمية حين جعلت اللغة الإنجليزية أساس التعليم. التقدم الذي أحرزته الدول الأخرى حدث لأن تعليمها باللغة الأم، وإحدى البدهيات في علم النفس أن الفهم، وسرعة الاستيعاب يتحققان عندما تقدم المعرفة للمتعلم بلغته الأصلية، ذلك أن العقل عندما يتعرض لمعلومة جديدة، وبلغة غير لغته الأصلية يواجه مشكلتين يلزمه تفكيكهما، وفهمهما، أولاهما اللغة فبمجرد وجود مصطلح لا يعرف معناه يتعثر الذهن مثله مثل الماء الذي يجري، ثم فجأة يعترضه عارض يشتته ويعيق مسيره. فالذهن في هذا الوضع يحتاج إلى فهم المصطلح، ثم فهم القانون أو النظرية أو المعلومة التي يتضمنها المصطلح، وفي هذه الحالة يبطئ الفهم ويصعب، ويتشتت الذهن، وربما تتعثر مسيرة الفرد التعليمية.
صحيح أن لغتنا تواجه تحديات جمة، ليست مقتصرة على جحود بعض أبنائها، بل يضاف لها المصطلحات المعرفية والتقنية، وفي كل المجالات، والسبب أننا لا ننتج المعرفة، بل نستهلكها، وهذا من شأنه مضاعفة المشكلة للأجيال، والتأثير على برامج التنمية، فالتنمية معرفة، وطريقة تفكير، ومهارة يحسن الفرد من خلالها ما يجب عليه إنجازه، إضافة إلى الشعور بالانتماء وحضور الهوية، وهذا في ظني، وكما أثبتت البحوث والدراسات التربوية، والنفسية قد لا يتحقق بصورة كبيرة، ما لم تكن اللغة الأم لغة التعليم، مع التأكيد على ضرورة التواصل مع الأمم الأخرى والاستفادة من معارفها وترجمتها أولا بأول حتى تكون أجيالنا على تواصل مستمر واطلاع على الجديد، وهذا ما تفعله دول كالصين واليابان وكوريا التي نفضت عنها غبار الجهل وتمسكت بلغاتها وبلغت شأوا عاليا في التنمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي