عندما تشيخ الطيور في أعشاشها
قال لي أحد الزملاء إنه في حيرة من أمره فأبناؤه من الجنسين أنهوا دراستهم الجامعية وتوظفوا وعملوا لكنهم لا يرغبون في الزواج لأسباب عدة أهمها، حسبما يقولون، رغبتهم في بناء الخبرات وبناء أنفسهم وتحديد اتجاهاتهم العملية والشخصية، وأنهم يتطلعون لاستكمال دراساتهم العليا، ولا يرغبون في الاقتران بشخص آخر يعوقهم في هذه المرحلة، ويضيف أنه يعتقد أن هناك أسبابا أخرى وهي الرغبة في الحرية بالنسبة للشباب، والخوف من الفشل بالنسبة للفتيات وخصوصا أنهم يرون ارتفاع حالات الطلاق والعنف الأسري والمشكلات الأسرية في ظل عدم رغبة الشباب في تحمل مسؤوليات الزواج وما يفرضه من التزامات.
يضيف زميلي قائلا إنه كما يبدو له أن "الطيور شاخت في أعشاشها" مبينا أن هذا الوضع لم يمر على والديه أو أجداده سابقا حيث عادة ما يتزوج الأبناء في سن مبكرة ليبنوا "أعشاشهم الخاصة" بعيدا عن عش الوالدين، وبالتالي فإن بقاء الأبناء دون زواج في بيوت والديهم تجربة جديدة على نطاق واسع حيث يبقى الأبناء في بيوت والديهم لأواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، مؤكدا أنها مشكلة كبيرة إذ إن الأبناء تجاوزوا مرحلة التربية واستقلوا بآرائهم وقراراتهم ولا يرغبون في تدخل أحد من الوالدين فيها وفي الوقت ذاته فإن الوالدين يريدان أن يفرضا آراءهما عليهم وفق مفاهيمهما التي تبنياها ويرفضها الأبناء ما يجعل الصراع اليومي حالة لا فكاك منها.
أحد الآباء قال معلقا على طرح زميلي "نعم نعيش مشكلة حقيقية، مبينا أنه يعيش معاناتها حيث إنه يتوقع من أبنائه الرعاية بعدما شبوا هم وشاب هو، إلا أن الوضع خلاف ذلك حيث إن الأبناء رغم ذلك ما زالوا يريدون الرعاية من الوالدين دون تدخلات تربوية"، ويضيف أنه من حقه فرض سلطته في منزله وعلى الأبناء الذين ما زالوا يريدون الحقوق، أن يتحملوا الواجبات ويستمعوا لرأي رب البيت.
وهنا كما يبدو لي مكمن المشكلة حيث يريد الأبناء الكبار أن يتحمل الوالدان رعايتهم في السكن والمأكل والمشرب والخدمات كافة ولا يريدون من الوالدين التدخل في حياتهم رغم أنهم يعيشون في مملكة الوالدين التي يريدون المشاركة في التزاماتها والالتزام بقواعدها لجهة القيم والمفاهيم والعادات والتقاليد التي يحترمونها ويعتقدون بسلامتها وضرورة الالتزام بها وهو ما يخالفهم بشأنه الأبناء.
أحد الآباء يقول ما إن أعترض على أحد أبنائي بشأن سلوك سلكه حتى أجدهم جميعا واجهوني بمنطق لا أتفق معهم بشأنه إلا أنني أحاول أن أكون مرنا وأستمع وأحاور، مؤكدا أن أبناءه هزوا الكثير من الثوابت التي كان معتقدا بها وأنهم عادة ما يتمكنون من إقناعه ليلوذ بالصمت وأحيانا لا يقتنع إلا أنه يميل للانسحاب أيضا لكثرة أصواتهم مقابل صوته، ويضيف ليتهم يتزوجون ويكونون أعشاشهم الخاصة ويطبقون قناعاتهم في مساكنهم لكان الوضع أفضل بكثير.
والسؤال هل نحن في فترة زادت فيها عنوسة الرجال والنساء على حد سواء فبعد أن كان الزواج في العقد الثاني من العمر أصبح في العقد الثالث واليوم يصل لأوائل العقد الرابع؟ وهل يمكن أن نعيد تعريف العنوسة؟ أو أن نمدد السن التي نعتبر فيها الرجل أو المرأة في حالة عنوسة؟
طبعا مصطلح العنوسة كما هو متعارف عليه يخص النساء ولكنني هنا أود أن أؤكد أنه لم يعد كذلك إذ إن الرجل أو المرأة يستطيعان الزواج متى ما قررا ذلك وأصبح من الطبيعي أن تتزوج المرأة في الثلاثينيات، ولقد استمعت لطبيبة متخصصة في التوحد تقول إن حالات التوحد زادت بعد أن تأخر عمر زواج النساء للثلاثينيات.
البعض يقول إن في بلادنا ثلاثة ملايين عانس إذا جاز المصطلح ولا أعلم على أي أساس تم تحديد هذا العدد؟ فهل تم تحديده على أساس أن كل من تجاوزت الـ 25 سنة تعتبر عانسا أو التي تجاوزت الـ 30 سنة أو أكثر من ذلك؟ يبدو لي أن مصطلح عانس المخصص للنساء مقبل على الزوال وسيستخدم مكانه الزواج المتأخر للرجال والنساء على حد سواء. علينا أن ندرس أسباب تأخر زواج الجنسين والآثار الاجتماعية والنفسية والصحية المترتبة على ذلك التأخر، وعلينا أن نجد الحلول الناجعة لمعالجة التأخر إن كان التأخر مشكلة كما يبدو لنا حاليا إذ قد يقول قائل إن الوضع طبيعي جدا في ظل المعطيات الحالية والمستقبلية.
وإذا كان التأخر في الزواج سيصبح أمرا معتادا في ظل اتساع اقتصاديات السوق وما تفرضه من مفاهيم وسلوكيات، فما هو الحل بالنسبة لما يعانيه الوالدان من وجود الأبناء الكبار في مساكن والديهم، وكيف للوالدين التصرف مع أبنائهم خصوصا العاقين من وجهة نظر الوالدين لكونهم يريدون استقلالية تامة مقرونة برعاية متكاملة دون أن يقدموا لوالديهم أي فائدة سوى القلق والتكاليف والإزعاج والمناكفات، بل إن بعضهم لديه مشكلات أخلاقية كبيرة يعجز الوالدان عن معالجتها وخاصة أن الوالدين كبار في السن وينصحهم الأطباء بالراحة والبعد عن المشكلات في ظل زيادة أمراض العصر كالضغط والسكري وأمراض القلب وتصلب الشرايين وغيرها. يبدو لي أن المتغيرات الاقتصادية وما نشأ عنها من تغيرات ثقافية أدت لتغيرات اجتماعية أعادت بناء المعايير والمصطلحات وأدخلت المجتمع في حالة جديدة من المفاهيم والتقاليد والعادات تداخلت مع سابقاتها وبتنا نعيش صدامات اجتماعية كثيرة ويبدو لي أنه حان الوقت للتصدي لها من قبل أجهزة الدولة المعنية كوزارة الشؤون ومن قبل الجمعيات الخيرية المتخصصة في القضايا الاجتماعية.
ختاما، أتطلع إلى أن تنشئ وتفعِّل وزارة الشؤون الاجتماعية مركزا للبحوث والدراسات الاجتماعية لرصد المتغيرات والظواهر وتحليلها وتشخيصها والتعاطي معها مبكرا من خلال برامج علاجية متعددة ومن ذلك التوعية والتوجيه والإرشاد من أجل مجتمع متماسك قادر على مواجهة المتغيرات الاقتصادية والثقافية دون هزات تضعف نسيجه.