الخافي على «مكنزي»
لا أحد يدعي كمال تقرير مكنزي أو غيره، وهو تقرير أصبح موضوع الساعة. وهنا حديث عن ملحوظة واحدة، وما أقوله ليس عن تنظير، بل عن علم ومشاهدة من خلال عملي في وزارة المالية سنين كثيرة.
التحول الاقتصادي مشروع حكومي يغلب عليه الطابع المهني، وجودة تنفيذه تعتمد من ضمن ما تعتمد على الجودة المهنية في التنفيذ، وليس فقط في التصميم. من المنفذون؟ موظفو الحكومة، لكن مستواهم المهني متدن. هناك ضعف وجمود مهني في القطاع الحكومي، وقد أثر هذا الضعف سلبيا في مستوى الأداء في الحكومة، وفي المجتمع عامة. ومن ثم فإن معالجة ذلك التدني مطلب ملح لنجاح مشروع التحول. والكلام على الوضع العام وليس عن موظفين بعينهم أو جهات بعينها.
من علامات ونتائج هذا التدني كثرة المناداة بتعديل وتطوير الأنظمة واللوائح الصادرة عن الأجهزة الحكومية، حتى ولو كان صدورها حديث العهد. من العلامات دأب الأجهزة الحكومية على الاستعانة وبكثرة بمتخصصين من خارجها لإعداد تقارير في مجالات اقتصادية أو زراعية أو مالية أو قانونية أو تنظيمية ...إلخ مما كان مفترضا أن ينجز أكثره بواسطة موظفي الأجهزة الحكومية المعينين على وظائف تخصصية، أسوة بما يحدث في دول أخرى كثيرة. من العلامات أن وزارة المالية وعلى مدى سنين طويلة وظفت اقتصاديين غير سعوديين وبعضهم كان يعمل في وزارة المالية (الخزانة) الأمريكية، على وظائف مشابهة لوظائف يشغلها سعوديون في وزارة المالية السعودية. ما أهم أسباب التوظيف؟ تدني مستوى السعوديين مهنيا عن المستوى المفروض. وحتى لا يفهم التعميم في كلامي فإن ما قلته لا ينفي وجود كفاءات وطنية عالية المستوى، ولكنها وبصفة عامة قليلة وحوافز استمرارها في الحكومة ضعيفة.
هناك أسباب لهذا التدني وأهم أسبابه في نظري كون معايير التقويم المتبعة للترقية على أغلب الوظائف التخصصية لا تكفي للحكم باكتساب المهارات المنشودة. هناك ضعف واضح في أنظمة وسياسات الخدمة المدنية التي تتيح التعرف على الكفاءات والقدرات وتقييمها تقييما موضوعيا، وإعطائها الحوافز المادية المنافسة.
أساليب أو طرق التقييم التي يعتمد عليها لإعطاء رأي يتصف بالنزاهة والموضوعية للتأكد قدر المستطاع من تحقق المتطلبات في المرشح للوظيفة. هذه المعايير أو الأساليب المتبعة حاليا في أنظمة ولوائح الخدمة المدنية للتعيين أو الترقية على الوظائف التخصصية لا تعتبر كافية لمعرفة مدى أهلية واستحقاق المرشحين لشغل تلك الوظائف، بل هي أضعف وأدنى من أن يعتمد عليها. ولذا هي لا تدفع المتخصصين على تطبيق المهارات المنشودة أثناء العمل، أو لتحديث معلوماتهم المهنية.
عدد سنوات الخدمة هو أول المعايير المتبعة حاليا، ولكن من المشهور أن عددا كبيرا من الموظفين المعينين تحت مسميات تخصصية مهنية من المشهور أن عملهم يغلب عليه أو يطغى عليه الجانب الإداري البيروقراطي، ومن ثم فإن أكثر المهام التي يؤدونها لا تطبق فيها المهارات والأدوات التي تعلموا أساسياتها في الجامعة. وحتى لو طبقوا شيئا منها، فإنه يغلب عليهم الجمود في المعلومات، والانقطاع عن تحديث مهاراتهم، ويقل أو يندر اطلاعهم على وسائل المعرفة المتنوعة من كتاب وغيره لتطوير قدراتهم.
معيار آخر هو تقويم الأداء، ولكن تقويم الأداء لا يعتمد عليه اعتمادا قويا للحكم على مستوى المرشح علما ومهارة، والمعايير الفنية الموضوعة غير كافية لتقييم المتخصص مهنيا.
الواقع يؤكد أن مستوى المعينين على الوظائف التخصصية الحقيقي لا يرقى في حالات كثيرة إلى متطلبات تلك الوظائف. إن أكثر الأجهزة الحكومية تنقصها الكفاءات المتخصصة في مجال عمل تلك الأجهزة رغم كثرة المعينين فيها على وظائف تخصصية، ومن دلائل هذا النقص كثرة الاستعانة وباستمرار بمتخصصين ومستشارين وخبراء خارج الأجهزة الحكومية، مع أنه يفترض أن يسد المعينون على وظائف تخصصية مسد هؤلاء المستعان بهم في أكثر الأحوال.
مقترحات للمساهمة في رفع المستوى المهني في الإدارة الحكومية
تصنيف الوظائف الحكومية فيه عيوب كبيرة، لذا لا بد من إعادة التنظيم في التسميات للوظائف، حسب الحاجة. ويتزامن مع ذلك توصيف أدق للوظيفة، وإلى وضع مواصفات أدق في صاحب الوظيفة، بما يسير مع الاتجاه المتعارف عليه علميا ومهنيا، وكما هو متبع في الدول والمنظمات الدولية المتطورة إداريا.
من المهم أن يشار إلى وجوب التفرقة بين الترقية الوظيفية البحتة والترقية الوظيفية الفنية، فيمكن أن يرقى الموظف إلى مراتب عليا، لكن دون أن يعطى ألقابا ومسميات لها متطلبات فنية أو مهارات غير متوافرة فيه التوافر الكافي.
كذلك أقترح تبني أساليب تقويم متنوعة زيادة على تقرير مستوى الأداء على أن تتصف هذه الأساليب بأعلى موضوعية وأن يلتمس فيها تحقيق أعلى نزاهة ممكنة عند التعيين أو الترقيات على الوظائف التخصصية من المرتبة العاشرة أو الحادية عشرة فصاعدا. تحقيق هذا الاقتراح يتطلب إنشاء إدارة أو مركز للتقويم المهني تابع لوزارة الخدمة المدنية.
إن جودة تقويم الموظفين المتقدمين للترقية على وظائف تخصصية مهمة ومؤثرة في حسن أداء الجهاز الحكومي.